قراءة أدائية لمفهوم السكان الأصلانيين- عن العلاقة بين "السعي للعيش" ومخيال النكبة
لا تبحث هذه المداخلة في تكوّن مفهوم السكان الأصلانيين، باعتباره جزءًا من الدراسات ما بعد الكولونيالية، بقدر ما تفحص منظومة العلاقات بين السكان الأصلانيين؛ فلسطينيو/فلسطينيات 48، والنظام الصهيوني الاستعماري، في شكله الدولاني (الدولة). ونعني بذلك دولة الاحتلال الإسرائيلي، بما هي دولة قومية تقوم على مبدأ ""مَعيَرة"" Standardization الأحداث الاجتماعية الحاصلة في مجال Space سيادتها، والتي هي أيضًا شرط عمل أجهزة الدولة. يحدث ذلك من خلال جهاز ""المواطنة""، بما هو جهاز سيطرة وإدارة يعمل من خلال أشكال التسجيل البيروقراطي، الموجه إلى من هم في مجال عمله ومن هم خارجه، كمستهدفيّن بذلك الجهاز، بحيث يتباين أثر ذلك التأثير بحسب سياسات الاعتراف وسياسات الإنكار. فمن بقي من الفلسطينيين في ""فلسطين التاريخية"" لحظة إعلان الدولة، توجه باتجاههم سياسات الدولنة والمواطنة بما هي امتداد للمنظومة الاستعمارية، وأما من خرج بفعل التهجير والطرد، فتوجه ضدهم سياسات المواطنة الدولانية ،بما هي فصل للفلسطينيين عن بعضهم من خلال ""حد"" الخطاب الدولاني الذي تمثله الدولة كمجال رمزي وجغرافي. وعليه فإن جهاز الدولة الإسرائيلية، في بنيته الكاملة، حتى الإجرائية منها إنما تستهدف كامل ""المجتمع الفلسطيني"".
ما تحاول هذه المداخلة طرحه هو قراءة هذه العلاقة بين الفلسطينيين والفلسطينيات في أراضي 48 وبين جهاز الدولة الإسرائيلية، بما هي (تلك العلاقة) شكل أدائي Performative متبادل (بدرجة ما)، يساهم في تشكيله مخيال جمعي فلسطيني عن مفهوم ""أصلانية"" الانتماء إلى الزمان والمكان الفلسطينيين، وأشكال التهجير والنكبة. وهنا نتفحص أشكال التبعية المادية والرمزية من سلوك فردي وجماعي، ومن بنى شعورية وأنماط وعي فلسطينية تجاه فكرة ومجال وترميزات الدولة. وبالتالي فإن علاقة الفلسطيني مع مخياله عن التهجير والنكبة، تتأثر وتؤثر بشكل مباشر في مفهوم وتمثلات ""المواطنة الدولانية""، وأشكال أدائها، كما سنرى. وسيجري امتحان هذا الادعاء من خلال استخدام ثنائيات ما بعينها كباراديغم تحليلي ينتهي دوره بنهاية موقعه في التحليل.
العمل في المنظومة الرأسمالية بما هو مجاز استعماري
تبدأ العلاقة مع جهاز الدولة من منطق خطابي يقول أن الفلسطينيين كي يتمكنوا من العيش ماديًا، عليهم قبول احداثيات النظام القائم كما يضعها هو. ولعل ما سنتناوله -باقتضاب- هنا هو سبل العيش لفلسطينيي 48 ضمن بنية النظام الرأسمالي في جانبها الاستعماري، والذي يعد امتدادًا لنكبة الفلسطيني/ة وعزله عن جماعته وزمانه ومكانه، وكيف تعيد المدونة النمطية للنكبة انتاج ديناميات الإلغاء الاستعمارية.
يتميز سوق العمل الإسرائيلي، في شكله الرأسمالي، بمهنية عالية، وانفتاح مجالات العمل على تنوعها داخل القطاع العام والخاص، حتى تحول ذلك إلى جزء من الخطاب الرسمي. إلا أن هذا الأمر يتم من خلال محاور ذات نزوع حداثي واستشراقي استعماري، يبدأ من لحظة النكبة.
فالعلاقة بين الإرث الحرفي والمدونة المهنية الحداثية، هي عتبة لفهم علاقات السيطرة الاستعمارية، حتى لو كانت في سياق انتاج رأسمالي. وهنا لنا أن نستعمل ثنائيات حداثية لفهم بنية العلاقات تلك:
يُنظر إلى الحرفة في مقابل المهنة، باعتبارهما ثنائية حداثية ذات نمطية استشراقية، يتموضع فيها الفلسطيني كحرفي، مرتبط بالقرية والريف في موقع أدنى والصهيوني كمهني مرتبط بالمدينة في موقع أرقى. ما يجعل الحراك الممكن الوحيد المرتبط بـ""العيش"" في السياق الاستعماري ضمن مقولة رأسمالية، هو من الفلسطيني الحرفي إلى الصهيوني المهني، أي من القرية بموروثها الريفي إلى المدينة بموروثها التقني والتعاقدي، عبر المؤسسات التحديثية التابعة لها، بما هي عتبة لهذا العبور، كاللغة والصناعة والتقانة (التكنولوجيا) والمؤسسة.
تتضح المخاطرة هنا في كون أن العلاقة بين المهنة والدولة هي علاقة تبعية وهيمنة، فالطب مثلًا كالهندسة وغيرها هي مؤسسات مندغمة داخل بنية الدولة الاستعمارية، وأداة من أدوات تنفيذ الهيمنة المكانية والزمانية، وعليه فالتماهي معها على مستوى اللغة والتقانة إنما هو استبطان لمنظومة استعمارية، أو ما يسميه الباحث إسماعيل الناشف ""التواطؤ"".
بهذا المنطق يتضمن سعي الفلسطيني داخل بنية الدولة إلى ""العيش"" حركة جسدية وخطابية ورمزية مشحونة باليومي يصهر فيه التناقضات المادية الاجتماعية التي يتعرض لها. فكلما أتقن الطبيب الفلسطيني الطب أصبح طبيبًا أكثر وفلسطينيًا أقل، تصبح الفلسطينية هنا هي نقطة مغادرة وسعي إلى الحداثة الإسرائيلية. سعي يتعامى عن تلك التناقضات لصالح الحدث اليومي الحياتي ""العيش""، لكن هذه التناقضات تترسب في اللاوعي وتتربص للحظة جسدية (والجسد هنا هو عتبة الدمج بين الوعي والمادة، أو النظرية والممارسة، أو الحسي والذهني) قادرة على تدمير تلك الثنائية، والمساحة الحدية و/أو البينية بينها.
نشير هنا إلى فيلم ""الصدمة"" (2012) للمخرج زياد الدويري، الذي يحكي قصة طبيب عربي متميز وحاصل وعلى جوائز في مؤسسة الطب في إسرائيل، تقوم زوجته بعملية استشهادية، فتتحول حياته رأسًا على عقب، ويصبح حبيس لحظة فراغية بين المكونين المتقابلين والمتضادين في هويته.
على الناحية الأخرى من هذا الأداء الموزع على قاعدة ثنائية نجد نفس ديناميات الأداء لكن بشكل استرجاعي، في خطاب النكبة الفلسطيني، تقوم على ثنائية القرية والمدينة تؤكد البداية الفراغية في مفهوم النكبة والخروج من القرية وليس المدينة، نفس الشكل الأدائي الاستشراقي (من دون وعي).
هذا النموذج الثنائي: القرية / المدينة (مثله مثل الحرفة / المهنة) إنما يستبطن عنفًا ابستيميًا في ذاته، وفقرًا في تفسير العلاقات داخل الظاهرة. تقوم الدولة والمنظومة الاستعمارية بتوجيههما (العنف والفقر)لصالحها، لكن فلسطينيًا لا يحدث ذلك التوجيه (برغم لا مركزية الدولة كاستعارة في الحالة الفلسطينية، وهو ما نراه نقطة قوة، وذلك حديث له موضع آخر). فإذا كان السعي للعيش في الحياة اليومية لفلسطينيي/فلسطينيات الداخل يتعامى عن التناقضات السابقة، فإن الأمر نفسه يحدث في مسألة رسم الهوية الذاتية (الفردية والجمعية) فلسطينيًا، بداية من لحظة النكبة، من القرية دونًا عن المدينة، وكأنه تأكيد للتناقض بين القرية الفلسطينية والمدنية الإسرائيلية.
يتمركز ذلك في الإشارة إلى الخروج من القرية كترسيم أدائي Performative للفلسطيني دونًا عن المدينة الفلسطينية، ما يجعل أشكال استدعاءاتنا الذاكراتية كفلسطينيين منقطعة عن سياق حداثة مديني فلسطيني أيضًا، ومهني كنتيجة، وبذلك يصبح ذلك الخطاب عاجزًا عن تفكيك تناقضات الحداثة المادية والاجتماعية، التي تمارسها بنية الدولة الاستعمارية.
ازمة الفلسطيني هنا ليست في قدرته على الالتحاق واتقان اللغة المهنية الإسرائيلية بقدر (من حيث هي لغة تواصل وقوننة)، فتلك خاصة رأسمالية، لكن قدرته عن التعبير عن ذاتيته وجماعيته (ما) الفلسطينية، في علاقتها بالحداثة وأنماط الإنتاج، بالانطلاق من موقعه كجماعة أصلانية، ووعيه به ضمن شبكة علاقات خطابية وأدائية، تفصل الوعي عن الممارسة، في العلاقة مع العمل والسعي للعيش، انطلاقًا من الربط بين النكبة واليومي المعيش فلسطينيًا.
الاحالات:
1. ثمة مصطلحات ترد هنا من مجال عمل الباحث بترجمة لا يستخدمها عادة، وإنما ذلك يقع لأسباب تتعلق بسياق ومتن هذه المادة بشكلٍ حصري. أحد تلك المصطلحات: المجال، بما هي ترجمة مقترحة لكلمة Space>
الصورة: من أعمال الرسام الراحل فرانسيس بيكون، اختارها الكاتب لارتباطها بالحالة الجسدية والعقلية الرمزية الممزقة للسكان الأصلانيين، كما يراها."
د. عبد الله البياري
طبيب وباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقيّم فني، فلسطيني، مصري، مهتم بالدراسات الثقافية والنظرية النقدية، له مساهمات بحثية وكتابية منشورة في مواقع ومجلات أكاديمية متنوعة