كيف تواكب مؤسسة الزواج ظروف الحياة العصرية؟

تعتبر مؤسسة الأسرة وبضمنها الزواج، من إحدى أقدم المؤسسات المرافقة للإنسان وتاريخ الثقافة الإنسانية. في حين ثبتت كمؤسسة من حيث الوظائف على مر العصور، إلا أنها عدّلت نفسها من حيث الإطار والشكل لتواكب تغييرات العصر داخل نفس المجتمعات وبين المجتمعات.

عند معاينة الديناميكية في المجتمعات العربية، نجد أنها عاشت نفس التعديلات والتغييرات.

سوف يتمحور هذا المقال حول تأثير الجدلية بين الحياة العصرانية التي يخطط لها، يطالب بها ويتوقعها الجيل الشاب صباح الانتقال لبيت الزوجية وبين مشروع المحافظة على التقاليد، كإطار قيمي يُخَطِط له، يُطالب به ويَتصرف وفقه جيل الآباء. ستتمحور التجربة والأمثلة حول المجتمع الفلسطيني مواطن إسرائيل.

بغض النظر عن طرق التعارف التي يلتقي بها المقبلون على الزواج وعن مدى التدين ونسبة الثقافة ونوع المهنة، تكون لكل جهة توقعات عصرية – مقارنة مع أسلوب حياة والديهما- في إدارة بيتهما الزوجي المشترك، سواء من حيث المتغيرات المادية أو من حيث التوقعات في التعامل المتبادل فيما بينهما. بطبيعة الحال هناك تفاوتات فردية في كل متغير يؤثر على مدى حدة وشدة التوقعات وردود الفعل حين غيابها.

رغم أن معظم الأسر الفلسطينية داخل إسرائيل - إحصائيا تعيش ضمن أطر تحوي الأسر النواتية (جيل الآباء وجيل الأبناء غير المتزوجين)، إلا أنه وظيفيا نجد أن العلاقة الاجتماعية والعاطفية، وأحيانا المادية، تضم سلوكيات من الحياة اليومية تحوي الأسر الموسعة (ثلاث أجيال على الأقل، وهذه تضم أحيانا عدة أسر نواتية).

تبرز طلبات الأسرة الموسعة في فترة التغيير، مثل زواج أحد الأبناء أو الأحفاد، الحاجة للدعم المالي الملّح أو الحاجة للدعم الاجتماعي المكثف. حتى نضمن هذا الاستنفار والذي يعكس في مضمونه أن صالح المجموعة يسبق مصلحة الفرد، يجب أن تكون المضامين التي نشأ عليها الأفراد داخل هذا الإطار يحترم ويذوّت وينفّذ مبدأ الطاعة لحاجات الأسرة الموسعة وصالحها. أما في الحياة اليومية، فمن الممكن أن نجد الأسرة النواتية تربي أولادها على مبدأ الانطلاق والفردانية وتحقيق الذات الأكاديمية والمهنية والمادية.

لا يرى الأفراد من داخل الإطار التناقض البنيوي بين التربية للطاعة والتربية للفردانية والإنطلاق غير المحدود.

يبرز هذا عند وجود عنصر جديد على الإطار، مثل عند انتقال الزوجة الشابة للسكن كجارة لأهل الزوج.

لماذا تنتقل الزوجة للسكن كجارة لأهل الزوج؟

تدمج الإجابة على هذا السؤال بين واقع سياسة الدولة وواقع السياسة الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني. فالدولة التي تتعامل مع المجتمع الفلسطيني كأقلية قومية غير متساوية الحقوق تترك المواطن الفلسطيني بدون إمكانية متساوية للمواطن اليهودي من حيث شراء مسكن مسنود بقرض إسكان أو شراء قطعة أرض للبناء بسعر مدعوم من الدولة.

اجتماعيا، عندما كان الأبناء الذكور يشتغلون في مهن والدهم ويتوارثونها، ساد العرف على أن يسكن الابن الذكر عند الزواج في محيط مسكن والديه وأن تنتقل الأنثى لتنضم لبيت زوجها. على الرغم من أن هناك مجموعة كبيرة من الشباب والصبايا الذي تركوا بلداتهم لتلقي العلم ثم للانخراط في سوق العمل غالبا في المدن اليهودية الكبرى، إلا أن غلاء مستوى المعيشة من جهة، وعدم تكافؤ الفرص المادية مقارنة مع المواطن اليهودي من جهة أخرى، تجعل الوالدان يخططان لدعم أبنائهما الذكور في مشروع إقامة بيت زوجي. فيجدا أن بناء بيت أو عدة شقق في نفس المبنى لجميع الأبناء الذكور هو الحل المادي الأمثل المتوفر ويعيدا بهذا بناء النمط الوظيفي للأسرة الموسعة بعد أن عاشا هما نفسيهما فترة انتقالية كأسرة نواتية.

عند الإصغاء لرواية الوالدين، يبرز مدح الذات بسبب التفاني في خدمة مستقبل الأبناء الذكور، أحيانا على حساب الرفاه الشخصي والمعاناة المادية لسنوات طويلة. يستمع الابن لهذه الرواية تكرارا وهو يشهد تطبيقها خطوة تلو الأخرى سواء برضى أو برفض لطبيعة سلوك الوالدين.

عند الإصغاء لرواية الزوجة الشابة، تحكي عن قرارات في الحيز الخاص تم فرضها عليها دون أن يكون لها إمكانية الخيار، بما فيها مكان المسكن، تخطيطه، مواده، ألوانه، وأحيانا أثاثه، إضافة لجيرانها ونمط حياتها داخل بيتها وفي محيطه. وإذا إقترحت أن تقوم بأي تغيير، مثل أن تبدّل إتجاه مدخل البيت بحيث تحصل على نوع من الاستقلالية، فإنها تلام لأنها ""لا تقدّر مدى الخسائر المادية التي دفعها والدا العريس حتى تحصل على كل هذا جاهزا على طبق من فضة"". يؤذي اللوم العروس لأنها تعيش تجربة عدم السماح بإبداء الرأي فيما يخص الحياة الزوجية المقبلة عليها.

في حين يظن أهل الزوج أن كثافة سؤالهم عن حياة إبنهم وزوجته هو إهتمام بهما ونوع من العناية والرعاية، ترى الزوجة أنه ""تدخل في الخصوصيات"" الذي تود أن يتوقف، كإشارة إلى أنها ناضجة ومستقلة ومسؤولة. فيصبح سؤال عابر من أهل الزوج سببا لحساسية بالغة لدى الزوجة الشابة، ربما تحكي فيه مباشرة أمام أهل الزوج أو أن تطالب زوجها أن يكون مرسالها لوالديه في هذا الأمر.

يوفر السكن في جوار أهل الزوج لهم إمكانية متابعة تحركات الزوجين، بما فيها ساعات خروجهما وعودتهما، لبسهما، السلع التي يشتريانها والضيوف الذين يستقبلونهما. ويكون للوالدين ما يقولانه في كل بند من هذا. في حين يرى الزوج أن هذه محادثة ""عادية"" بين والديه وبينه، ترى الزوجة أنهما يحاولا ""السيطرة"" على زوجها وجعله ""مطيعا"" لهما كمنافسة على عدم طاعته لطلباتها، وبالتالي السيطرة عليها من خلاله.

هكذا، تحيط هذه ""الجدالات الصغيرة"" أجواء الزواج في مرحلته الأولى التي سرعان ما تتحول لأجواء بها ""نكد"" يتهم به كل من يتم ذكر إسمَهُ الآخر بأنه هو السبب في تسميم مناخ العلاقات في هذه المرحلة الانتقالية.

بينما يشعر الزوج نتيجة لهذه الصدامات بأن بيت الزوجية هو ""بيت نكد"" تشعر الزوجة ""بالاغتراب، الاقتلاع واغتصاب القرارات"" وترفض أن يتم زرعها عنوة في هذه البيئة.

في الحالات التي يتفق فيها الزوجان الشابان على الانتقال للسكن لمكان آخر، غالبا لمدينة يهودية وأحيانا لإحدى المدن العربية الكبرى أو ذات نسبة عالية من السكان العرب، يتم التعامل مع هذا القرار على أنه إعلان كسر لمبدأ طاعة الوالدين من قبل الزوج وتصريح علني لرفض التعايش معهم من قبل الزوجة.

يؤثر طول الصراع، كثافته وعدد الإحداثيات التي تزيد من اشتعال النقاشات فيه إلى خلق أجواء نفسية مشحونة وعلاقة زوجية متوترة لدرجة التهديد بالانفصال الفعلي أو العاطفي.

هذه الصورة سائدة جدا لدرجة عدم رفع الموضوع كمشكلة صراع بين أجيال أو كصراع ميكرو ناتج عن سياسة تمييز عنصري اقتصادي على مستوى الماكرو.

ما هي الحلول المتوفرة الداعمة للصحة النفسية؟

إن المطالبة بتغيير سياسات على مستوى الماكرو هو هام وضروري، ولكن لا يمكن تجميد ديناميكا العلاقات على مستوى الميكرو داخل الأسرة الموسعة والنواتية حتى تنفيذ التغيير أعلاه. من هنا، يكون الحل التوفيقي في اختيار موقع السكن في مكان منفصل عن الوالدين من كلي الجهتين لفترة سنتين أو ثلاثة في المعدل بهدف بلورة الذات الجديدة كمتزوج/ة وبلورة نمط العلاقة الزوجية باستقلالية. غالبا ستكون أجرة السكن أغلى من السكن ""المجاني"" ماديا ولكنه ""باهظ"" نفسيا وعاطفيا في البيت الذي بناه الأهل. على الزوجين اختيار الأثمان التي يريدان أن يدفعاها في هذه المرحلة من الزواج وهو اختيار لمأزق مزدوج بين إما أن يكون وضعهما المادي يعاني من الضغوطات أو أن يكون زواجهما يعاني من ضغوطات.

يوفر السكن المستقل في مرحلة الزواج الأولى إمكانية التعارف المتبادل الجدي والعميق، خال من التوترات والمشاحنات اليومية والتي تنشأ عن أسباب خارجة عن طبيعة العلاقة بين الزوجة والزوج. كما وأنها توفر بناء ما يسمى في العلاج الزوجي ""كلينا سويا"" Togetherness كهوية زوجية جديدة لكل منهما.

عند مشاركة أسرة الزوج أن الانتقال هو عملية تدارس عميقة وجدّية ومتأنية من قبل الزوجين الشابين لما هو أفضل لمستقبل كل منهما كأفراد وللعلاقة الزوجية في مرحلة تكوينها، فإن الرواية التي تؤكد على الرفض وكسر الطاعة بين الأجيال ستتهمش وستتبدل بالتركيز على رفاه الفرد وعلى رفاه العلاقة الزوجية. في الحالات التي يتابع أحدهم تأجيج الصراع، فإن هذا مؤشر للحاجة لمعالجة عينية لهذه الجهة.

خلاصة

في حين يشكّل نمط الانتقال من أسرة موّسعة لأسرة نواتية أحد أشكال التحوّل الوظيفي والمادي والاجتماعي في الأسرة كمؤسسة، فإنه يُرافق بسيرورات نفسية وعاطفية في معظمها سلبية وصراعية سواء بين الزوجة والزوج أو بين الزوجين وبين أسرة الوالدين. تتأثر هذه الصراعات من مفهوم الذات من جهة ومن المنافسة على أولوية الانتماء بين أسرة المنشأ وبين الأسرة النواتية المتبلورة من جهة أخرى. أثناء هذه السيرورة، تؤثر الأدوات والنتيجة على مفهومي الصحة النفسية وشعور الرفاه لدى كل من الزوجة والزوج في الأسرة النواتية قيد البلورة.

تشير روايات كل المتداخلين في الجدل الحاصل إلى شعور كل منهم بكونه ضحية: إما للعصرنة وإما للتقاليد. لا يشير أحد لكونه ضحية لسياسات الدولة، حيث يختفي هذا العنصر بين الجدل اليومي للمسبب المرئي غافلين عن المسبب الخفي المركزي.

أ.د. خولة أبوبكر

محاضرة وباحثة أكاديمية، معالجة زوجية وأسرية مؤهلة ومرشدة معالجين مؤهلة

شاركونا رأيكن.م