الزواج.. ميثاق غليظ لمشروع حياة

لقد جعل الله الزوجية مؤسسة تحفظ بقاء البشرية، وتؤدي الى سعادة البشر في حياتهم، بتحقيق مقصد السكينة، والذي يؤدي الى راحة النفس والطمأنينة، في الإفضاء النفسي والإفضاء الجنسي بين الزوجين. وجعل هذه الزوجية تسودها علاقة المودة، وهي الألفة والمشاعر العاطفية التي يرتبط بها الزوجان، وتوثق روابط الانسجام والوفاق والتشارك في كل مناحي الحياة للزوجين. وربط الله جل وعلا المودة بالرحمة، وهي الرأفة والمعاونة والمساعدة عند ضعف أحد الزوجين. فقد قال الله تعالى في سورة الروم الآية 21: ""وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"". ووصف الله عقد الزواج بالميثاق الغليظ، وما تعني هذه الكلمة القرآنية من بلاغة وروعة من العهد والقوة والتأكيد الشديد، والذي لم يرد في القرآن الكريم إلا في وصف عقد الزواج والميثاق مع الأنبياء، وذلك لأهمية الحفاظ على هذا الميثاق والوفاء به وأداء هذه الأمانة على خير وجه ممكن. فقد الله تعالى في سورة النساء الآية 21: ""وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا"". ثم وصف الله اتحاد الزوج والزوجة بكون كل منهما لباس للآخر، بحيث يكون الزوج والزوجة جسد واحد يغطي كل طرف فيه الاخر ويستره ويحفظه من كل ما قد يضر به. وذلك في قوله تعالى في سورة البقرة الآية 188: ""هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ "".

وإذا قلنا ان الزواج هو أمانه وميثاق غليظ، فان ذلك يستوجب الأخذ بكل الوسائل من أجل ان نبني الحياة الزوجية على أسس صحيحة، تؤسس لمشروع حياة لا أجل له الا الموت، يقوم كل طرف فيه بكل ما يلزم واجبات، من اجل رعاية العلاقة الزوجية والحفاظ عليها وبقائها، اسعادا لنفسه ولزوجه وجميع افراد العائلة. وكذلك من أجل الحفاظ على مجتمع قوي متماسك تكون فيه جميع لبناته، وهي العائلات، قوية ومتينة وقادرة على مواجهة التحديات الكثيرة والصعبة التي تقع في طريق الأزواج، وتهدد كيان الزوجية والبنيان الاجتماعي للمجتمع بأكمله.

وما نراه في أيامنا هذه في مجتمعنا العربي في البلاد، أن الزوجية باتت اجراء ينعقد بسهولة، وينفرط عقده بسهولة أكبر، ولا يعد له اعدادا صحيحا من قبل الشباب ولا حتى الاهل ولا المجتمع. كما صرنا نبحث ونستثمر في الأمور شكلية لا نلقي بالا للجوهر والمضامين الدينية والاجتماعية وحتى الشخصية. فلا الأهل ولا المؤسسات التربوية والدينية والاجتماعية لا تقوم بأي دور ولا حتى في محاول تهيئة الأزواج وتثقيفهم وتأهليهم للحياة الزوجية، والحقوق والواجبات المترتبة على كل من الزوجين، ولا نغرس في النفوس القيمة العليا للزوجية، والتي تفوق أي قيمة أخرى أو مصلحة لهذا الطرف أو ذاك. فنرى الخطبة باتت فترة لا يبين بها الخاطب ولا المخطوبة الحقيقة حول أحوالهم وظروفهم، وصارت تعتبر فرصة لقضاء فترات مرح وفرح، وليس التعارف الحقيقي بين الطرفين، والاطلاع على ظروف وأحوال وتطلعات وأمال وصفات وقدرات كل منهما، لتبنى الزوجية على بينة وأسس صحيحة.

فكم من خاطب أو مخطوبة أوهم الطرف الآخر ومناه بحياة رفاهية، فيغشه ويخدعه ليفاجئ الطرف الآخر بما لا يرضى ولا يقبل من ظروف وصفات وقدرات عند شريكه في الزوجية، تؤدي الفرقة والطلاق.

كما شاهدنا في محاكمنا الشرعية أن ازواجا وزوجات وجدوا بعد عقد الزواج خلاف ما بدا في فترة الخطبة من تصرفات ومعاملة ما يؤدي الى زعزعة الثقة بين الزوجين والنفور، وبالتالي الطلاق.

وكم تبين لنا في الخصومات أن بعض الأزواج والزوجات كان جل همهم في فترة الخطبة كيف يكون حفل الزفاف وما تلبس العروس والعريس، وما يغنى لهما وأين وكيف يقام حفل الزواج، دون الالتفات الى ما بعد ذلك من أمور الحياة الزوجية.

وكم وجدنا أن زوجات وأزواج لا يفهمون معنى الزوجية، وأهمية الاستثمار في تطوير العلاقة الزوجية. فنجد الزوج أو الزوجة راح يبحث عما يحقق به ذاته شخصيا، سعادة وهمية ذاتية، في تطوره وتقدمه المهني، أو في علاقات اجتماعية، لا تأخذ بالحسبان الشراكة مع طرف آخر في الحياة الزوجية.

وكم رأينا أن ازواج وزوجات يهملون الطرف الآخر ولا يعطونه حقه في الإفضاء النفسي وحسن المعاشرة، مما يؤدي إلى فراغ عاطفي في حياتهم الزوجية، والذي يجعل ضعفاء النفس يبحثون عن ملأ هذا الفراغ العاطفي خارج الزوجية، على كل ما يترتب على ذلك من اثار هدامة على العائلة والمجتمع بأكمله.

هذه وغيرها من المفاهيم الفردانية التي دخلت على مجتمعنا، وشوهت حقيقة قيمنا الدينية والاجتماعية الرفيعة، وأدت الى انتشار ظاهرة الطلاق في المجتمع، والتي وصلت وفق إحصائيات المحاكم الشرعية الى ما يقارب نسبة طلاق زوجين مقابل كل ثلاثة عقود زواج. ووفق هذه الإحصائيات فإن هذه النسبة ترتفع على التوالي من سنة الى أخرى، وتبشر بانفراط عقد المجتمع وتفككهن وتصدع أركانه، مما يجعله في مهب ريح المؤثرات الخارجية.

وعود على بد، فإننا نرى وجوب الوقوف على الأمانة التي حملها الناس في إقامة مؤسسة الزواج، وتحمل المسؤولية الكاملة كمجتمع وافراد، من أجل تغيير المسار، وإصلاح الحال سعياً للحفاظ على عائلات مستقرة هادئة هانئة في عيشها، تضمن مستقبل واعد لأفرادها وللمجتمع بأكمله.

د. اياد زحالقة

قاضي محكمة الاستئناف الشرعية ومدير المحاكم الشرعية في أراضي ال48

شاركونا رأيكن.م