قضايا تربوية – حول الأمل والوعي والإرادة والعمل
تعرفت في السنين الماضية على الكثير من النماذج الناجحة لعمل تربوي بمستوى عال يحتاجه مجتمعنا في القضايا التي نعتبرها ذات أولوية خاصة كقضايا الهوية والانتماء واللغة العربية ودعم الطلاب المهمشين أبناء الطبقات المسحوقة ورفع جودة التعليم ومعالجة التسرب بأنواعه والتربية النقدية وقضية العنف. كما زرت الكثير من المؤسسات التربوية والتقيت مع العديد من المربين والمربيات المثقفين والملتزمين والمهنيين في مختلف الأطر والمراكز الذين يعملون بإخلاص لتغيير واقعنا رغم القيود السلطوية والصعوبات المتنوعة خارجية كانت أم داخلية. وفي كل مرة كنت التقي مع مربين ومربيات من هذا النوع أو انكشف على نشاط تربوي كهذا في مدارسنا ومؤسساتنا كانت تترسخ لدى القناعات بالقدرات الكبيرة الكامنة داخل مجتمعنا ويزيد لدي الأمل بقدرتنا على مواصلة الطريق لتغيير واقعنا والنهوض بمجتمعنا. في نفس الوقت كنت أتساءل، لماذا يختار البعض هذا الطريق المشرف ويختار الأخرون طريق الخنوع والعجز والخوف فيحولون أنفسهم إلى مجرد اداة تخدم الوضع القائم واستمراريته وبالتالي يضربون مصالح مجتمعنا بعرض الحائط. ألا يعمل هؤلاء في ذات المؤسسة وفي نفس الظروف وفي السياق ذاته.
اخترت أن أفتتح هذا المقال، الذي أمل أن يتبعه عدد من المقالات، التي ستعالج قضايا تربوية في مجتمعنا، بهذه المقدمة لأننا بحاجة إلى الأمل وإلى التفاؤل وإلى الإيمان بأنفسنا في مسيرتنا الطويلة والشاقة لتغيير الواقع. إن أخطر ما يمكن أن يحصل لنا هو أن نستسلم لليأس أو أن نتقبل فكرة دونيتنا ونذوت القهر. فتصبح مهمة السيطرة والضبط وترسيخ الوضع القائم سهلة للغاية. والحقيقة أن ما كتبته فعلا موجود في مجتمعنا ولكن للأسف لا تسلط الأضواء عليه فهي إما موجه على الحالات التي تزيد من الإحباط أو على قصص نجاح أخرى مرتبطة عادة بخطاب التحصيل العلمي والعلامات وحول هذا بحاجة أن نخوض نقاشًا عميقًا لنستوضح الأمر بجميع جوانبه.
والحقيقة أن عدد المستائين من الوضع القائم والذين يؤمنون بضرورة تغيير الواقع هم كثر ولكن معظمهم لم ينتقل بعد إلى دائرة العمل. بعضهم غارق في حالة من الاغتراب يرافقها يأس واحباط. يتطلب مشروع بناء قوة مجتمعنا ونهضته إلى انتقال المحبطين إلى دائرة العمل فهناك الكثير مما نستطيع فعله رغم الظروف والتحديات. هذا الانتقال هو ضرورة، بل هو مركب حاسم في بناء قوة مجتمعنا وأخذ مسؤولية على قضايانا وله بالغ الأثر على نضالنا لتغيير السياسات والبنية المؤسساتية التي تسعى لترسيخ دونيتنا في نظام المواطنة القائم في هذه الدولة.
لم يأت التطرق في هذه المعالجة إلى العوامل الذاتية وعلى الظواهر السلبية في مجتمعنا المعيقة لتقدمنا ولنهوضنا من باب جلد ذات أو تجاهل السياق التاريخي والعام وللسياسات العنصرية. وانما من الضرورة بمعالجة القضايا المتعلقة بنا فقسم كبير منها خاضع لإرادتنا ولسيطرتنا ومعالجتها سيعزز موقفنا مقابل المؤسسة وفي النضال لإحداث تغيير جذري للوضع. لا يخفى على أحد أن قسم من العوامل الذاتية مرتبط بالسياسة وبالسلطة وممارساتها وبالسياق التاريخي. مواجهة السياسات العنصرية والمشاريع المؤسساتية الإشكالية هو الأساس وعلينا تعزيز نضالنا وتطوير سبل مواجهتنا خصوصًا أن أدوات وطرق السيطرة تتطور وتصبح أكثر أحكامًا مع الوقت. ولكن ان نتجاهل تلك المعيقات المتعلقة بنا والمساحات التي بإمكاننا التأثير عليها وملأها بمضامين تخصنا هو استسلام للعجز ولا يخدم مشروع تغيير واقعنا ولا يعزز من نضالنا ومواجهتنا.
علينا أن نستغل كل المساحات التي بسيطرتنا وبإمكاننا التأثير عليها بالشكل السليم الذي يخدم مصلحة مجتمعنا ويلبي احتياجاته كي نستطيع ان نوسع هذه المساحات ضمن رؤية مستقبلية لتغيير بنيوي جذري وعلينا أن نعالج القضايا والعوامل الذاتية التي تستنزف طاقاتنا كي نفرغ هذه الطاقات لمواجهة السياسات والمشاريع بناء وعمل. التغيير والنهوض يحتاج برأيي للعمل بشكل موازي على جبهتين: خارجية وداخلية. إلى جانب انتقاد السياسات العليا والمؤسسة والاحتجاج الذي يجب أن نوسعه ونطوره والمرافعة بأِشكالها للتأثير على السياسات ومتخذي القرارات، علينا أخذ زمام المبادرة والعمل وتنظيم أنفسنا من القاعدة لبناء قوة مجتمعنا في جميع المجالات وهذا يحتاج إلى وعي وإلى ارادة.
مساحات جديدة وتحديات جديدة
أطلقت وزارة التربية والتعليم سلسلة من البرامج والتغييرات تحت عنوان اصلاحات جديدة في حقل التربية والتعليم. تتميز هذه التغييرات والبرامج بانها مشتقة من توجهات ليبرالية جديدة تقلل من مركزية الحكم المركزي وتزيد من الخصخصة وإخضاع التعليم بشكل أعمق لاعتبارات ""السوق الحر"". تجري هذه العملية في إسرائيل ضمن تأثير بنيوي أخر مرتبط بمركب أساسي في نظام المواطنة الا وهو المركب العرقي اليهودي لذلك فمسألة ""حرية الاختيار"" هي ليست كاملة وليست جوهرية بالذات بكل ما يتعلق بالعرب الفلسطينيين. ممكن النظر إلى هذه المرونة أيضا كجزء من اليات السيطرة الجديدة والمحكمة التي تعتمد على بعض المرونة وهذا موضوع يستحق مع معضلاته معالجة عميقة. ومع ذلك هذه السياسة بتناقضاتها البنيوية تخلق تحديات جديدة من جهة ولكن أيضا تؤتي بفرص جديدة وامكانيات إضافية للعمل بالذات لمن يحمل رؤية تربوية ملتزمة بقضايانا والإرادة ويمتلك المهنية المطلوبة.
كجزء من هذه التوجهات، تم توسيع الصلاحيات الممنوحة لمديري ومديرات المدارس وإدخال بعض المرونة في عملهم الإداري والتربوي وحولت ميزانيات لتصرفهم وامكانيات اختيار سبل استغلالها بواسطة مزودين خارجيين أو طرق أخرى على ان يتم ذلك ضمن تعليمات منظومة المرونة التربوية-الإدارية (גפ""ן).
كل هذه التغييرات زادت من الأعباء الإدارية والبيروقراطية على مديري ومديرات المدارس وزادت من تعرضهم لضغوطات تسويقية من المزودين وداعميهم وأخشى أيضا ان يفتح هذا ""السوق الحر"" بابا لدخول أطراف مرتبطة بالإجرام إلى عالم التربية. كذلك وضع ميزانيات جديدة كبيرة نسبيا تحت سلطة مدير/ة المدرسة قد تؤدي إلى ظواهر إدارية سلبية في الطريق لاستعمال هذه الموارد وتخطي الرقابة فعادة ما يرافق توزيع الصلاحيات أجهزة رقابة جديدة خصوصًا أن المديرين لم يتلقوا تأهيلا كافيا لادارة هذه التغييرات التي تجري بسرعة كبيرة.
على المديرين والمديرات وعلى السلطات المحلية استغلال الموارد التي توضع تحت تصرفهم حسب معايير مهنية بالشكل الذي يخدم احتياجات طلابنا وأولويات مجتمعنا. كذلك يجب اتخاذ تدابير لتعميق الثقة بالذات في هذه القضايا داخل مجتمعنا وبشكل خاص بين الأهالي والمؤسسات التربوية. هناك أزمة ثقة في مجتمعنا وعدم إدارة الأمور بشكل سليم سيعمق من هذه الازمة. بالإمكان بناء الثقة وتعزيزها من خلال الالتزام بمعايير مهنية وقيمية في الاختيار واتخاذ القرارات والاستقامة وتعميق الشفافية واشراك الأهالي والمجتمع بشكل سليم.
نأمل أن تستغل هذه المساحات الجديدة لإدخال البرامج التي تساهم في دعم القضايا التي نرى كمجتمع ذات أهمية. نتمنى أن نرى على سبيل المثال مديرين ومديرات يستغلون قسم من الميزانيات لتنفيذ مشروع وظيفة الجذور فيعينون مركز يقوم على تطوير البرنامج وملاءمته للمدرسة وأن تمرر دورات لتأهيل المعلمين حول الموضوع ودمج لأفكار المشروع في مواضيع التعليم المختلفة وفي التربية الاجتماعية ومشاريع التطوع.
وأن نرى مديري ومديرات مدارس يسعون لتحويل قضية اللغة العربية كقضية المدرسة بأكملها فيبنون المشاريع العميقة ويشجعون المطالعة. وأن تخصص الموارد بالشكل الذي يضمن ان ينهي جميع الطلاب الصفوف الأولى بوضع جيد في لغة الامل مع حب للغتهم وثقافتهم.
ونأمل كذلك ان تخصص موارد كبيرة لدعم الطلاب المهمشين وأبناء الطبقات المسوقة والمستضعفة واستيعابهم بشكل سليم في العملية التربوية ومعالجة موضوع التسرب الخفي.
لدبنا كمجتمع وكأهالي توقعات وامال كبيرة من مدارسنا ومن المديرين والمديرات ومن المعلمين والمعلمات لا تقتصر على التحصيل العلمي. فأملنا بمعلمينا وبمعلماتنا وبمديرينا وبمديراتنا كبير ونتمنى ان تتسع هذا العام دائرة المعلمين المثقفين الملتزمين الناشطين لنعزز الأمل ونساهم في التغيير للأفضل وفي الاتجاه الصحيح.
(يتبع)