هواجس معجّلة… إلى أين نحن ماضون؟

طرقتْ بابنا صباحًا، كعادتها من كلّ أسبوع، سعيًا وراء لقمة عيشٍ كريمة تضمن لها ولأبنائها الأربعة بعضًا من الاستقرار والأمان الاقتصاديّ، بعد أن تمّ سجن الزوج/الأب، الأمر الذي اضطرّها إلى الخروج والبحث عن عملٍ تسدّ به رمق عائلتها، فوجدته في تنظيف البيوت وتلميع ما جادت به الدنيا لغيرها من البشر.

لكنّ قدومها هذه المرة جاء مختلفًا. اصطحبتهُ معها، مع اعتذارها الشديد لهذا ""التجاوز""، إن صحّ التعبير، حيث أجبرتها ظروفها الخاصّة في هذا اليوم، على اصطحاب (م) أصغر أبنائها معها ولم تكن قد طلبت إذنًا بذلك.

لم تكن لديّ إمكانية أخرى، اعذريني"". قالتها وهي تكرّر أسفها واعتذارها.""

نظرتُ إليها بعينين ملؤهما القبول والرضا، وأنا أهديها وصغيرها ابتسامةً لطيفةً محبّة، أُطمئِن بها قلبه الصغير وقلبها المتعب من أعباء الحياة وهموم الآتي.

كنتُ قد بدأتُ بكتابة منشوري هذا، قبل أن يطلّ عليّ (م) بهندامه النظيف وأحلامه المؤجّلة وطفولةٍ تأرجحت بين اليقين وعدمه، حين كتبت:

بضعة أيامٍ ويعودُ الفاتح من أيلول ليطلّ عليّ من جديد، مغايرًا عمّا كان عليه في السابق. فمنذ أن غادرت سلك التعليم قبل حوالي عقدٍ من الزمن، تغيّرت الحال والأحوال، وأخذت الشؤون التعليمية والتربوية تأخذ مساراتٍ أكثر تعقيدًا وتركيبًا في ظلّ العولمة والتكنولوجيا الحديثة، وفي ظلّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمّر بها كثيرون ...

وهنا توقّفت. وكان لا بدّ لي من وقفةٍ أعود فيها أدراجي إلى حيث الواقع المرير بعيدًا عن أيّ تنظير.

(م) طفلٌ ذكيّ، بهيّ الطلعة، لم يتجاوز السادسة من عمره بعد. تلمح في قسماته الصغيرة وجعٌ دفينٌ لقساوة دنيا جارت عليه قبل الأوان، لكنّها قسماتٌ جبلت بكبرياءٍ وعزَة نفس تجلّت ملامحهما في عينين مشرقتين لرجلٍ صغير. كنت أنظر في عينيّ هذا الطفل وتساؤلاتٍ كثيرة تجتاحني وتبعدني عن فضاءات العولمة والتكنولوجيا والنظريات التربوية الحديثة وأنماط التفكير الجديدة وطرائق التعليم البديلة وعن جميع النظريات الطنّانة الرنانة. أخذتُ ألتصق أكثر فأكثر بنظرات هذا الطفل الذي بدأ يروي لي عن أحلامه وطموحاته، وابتسامة بريئة تعلو شفتيه فلا تفارقهما. هذه الابتسامة التي لم تكن لتدرك معنى الغدر، ومعنى أن يطعن أحلامك وآمالك سكينٌ من الخلف أجّله واقعك قليلًا. هذه الابتسامة ذاتها، أبقتني قيد سؤالٍ هو الأهمّ: أين (م) ومن هم مثل (م) من كلّ ما ذكرت من نظرياتٍ وتطبيقاتٍ وفرص ذهبية ربّما تمنحهم إمكانيّة الهروب من واقعهم الاقتصاديّ والاجتماعيّ القاتم؟ فجميعنا يدرك مدى اشتداد الأزمة الاقتصادية في إسرائيل، حيث شهدناها تبسط ظلالها وتأخذ بالتوسع وتضييق الخناق على جميع المواطنين، ما أدّى إلى انخفاضٍ في مستوى المعيشة لم تشهد له البلاد مثيلًا منذ تفشي جائحة الكورونا وحتّى يومنا هذا. فقد تراجع مستوى المعيشة ب 4.4% حسب التقرير السنوي لمؤسسة التأمين الوطني منذ تفشي هذه الوباء اللعين، وبالتالي ارتفعت نسبة الفقر ب 7% ممّا يدلّ على أنّ هناك 900 ألف طفل يعيشون تحت خط الفقر ويعانون نقصًا في الخدمات الصحيّة وخدمات التربية والرفاه ويشعرون المسّ بكرامتهم كبني بشر، وهذا معطى يثير القلق والذهول وقد أخذ في هذه اللحظة يثير قلقي أنا شخصيّا على (م) وعلى مستقبله الضبابيّ.

ويبقى هاجسي الأساسي، كيف السبيل إلى تحقيق ما يحلم به هذا الصغير وأمثاله، في ظلّ هذه الظروف الشخصيّة الصعبة وبالطرق الأكثر نجاعةً وقدرةً على إحداث التأثير والتغيير؟ وما هو دور جهاز التربية والتعليم في كلّ هذا؟ أسئلةٌ كثيرةٌ من الصعب في هذه العجالة مناقشتها والردّ عليها هذا إن وجد الردّ.

وأعود إلى صديقي الجديد… دعوته إلى الجلوس حيث جلستُ وحاسوبي وهواجسي وأفكاري، ودعوتُ الأمّ لتباشرَ عملها، مشيرةً إليها ألّا تقلق بشأن صغيرها الذي سرعان ما أصبح صديق نهاري وملهم حرفي.

لم يكن من الصعب أبدًا على (م) اجتياز حاجزيْ الخجل والارتباك، والانخراط معي في محادثةٍ أسعدتني وأسعدته، وهذا بحدّ ذاته كان مؤشّرًا كافيًا بالنسبة لي دلّ على ذكائه الاجتماعيّ والعاطفيّ، وقدرته على التواصل معي بمهارةٍ جعلت قلقي مضاعفًا عليه وعلى مستقبل مجهولٍ لطفلٍ موهوب.

أخبرني أنّه متحمّسٌ جدًّا لدخول الصفّ الأول، الصفّ الجديد بحسب تعبيره، وأنّه ينتظر افتتاح السنة الدراسية بفارغ الصبر، كما أنّ لديه رغبة شديدة بالتعرّف إلى أصدقاء جدد، ولديه طموح في أن يصبح طبيبًا يداوي ويعالج الناس. كلّ هذا حلم به هذا الصغير وأمل تحقيقه.

سرحتُ بخيالي، فكّرت بآماله وأحلامه متمتمةً بيني وبين نفسي، ""كم تحتاجُ هذه الآمال يا صغيري لبيئةٍ صحيّة حاضنة، ولوضعٍ اقتصاديّ ثابت، ولجهاز تربيةٍ وتعليمٍ ناجعٍ وداعم، ولمعلّمات ومعلمين أكْفاء يتمتعون بمهنيّةٍ عالية، لا يرقصون فيها على حبال مصلحةٍ شخصيّة أو حبّ ظهور، خاصّةً ونحن نشهد اليوم اختلاط الحابل بالنابل في واقعٍ تعليميّ هو بحدّ ذاته قضية مركّبة وخطرة تربويًا، حيث أصبح التمييز بين المعلمين الذين يستخدمون التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك مثلًا، على سبيل المثال وليس الحصر، كأداة تعليمية رائعة يمكن استثمارها في دعم التعلّم الجماعي وتعزيز التواصل بين الطالب والمعلّم وأولياء الأمور وجعلها ساحة للنقاش والحوار الحضاري وملتقى للثقافات، وبين أولئك الذين قتلهم حبّ الظهور مهمةً صعبة. فنرى بعض هؤلاء يوظّفون هذه التطبيقات من أجل أهدافٍ شخصية يشبعون من خلالها غرورهم ونرجسيّتهم، يكونون فيها هم ""مركز الحدث"" وليس الطالب أو الموادّ التعليمية.

القلق كبير لكنّ الأمل دائمًا أكبر. فإلى أين نحن ماضون؟

دعاء زعبي - خطيب

معلمة متقاعدة ومرشدة قطرية ولوائيّة سابقة لموضوع التاريخ للمرحلة الإعداديّة، وكاتبة ترى بالكتابة هاجسها المؤجّل فيما تبقّى لها من عمر

شاركونا رأيكن.م