هل يمكن تدريس المناهج باستخدام المسرح والدراما؟
المسرح والدراما، هذا العالم الساحر، الذي يسافر فينا إلى كل مكان، ويأخذنا إلى أعمق نقطة تفكير، ويلبسنا أثوابًا قد تثير فينا التأمل والتفكّر والتفهم لوجهات النظر المتعددة، ويكشف لنا المعنى، ويجعلنا نرى شمولية الأحداث، ويفتح آفاق التساؤلات، والبحث في مكنونات الانسان والذات.
أبو الفنون، تجتمع فيه جميعها، من الموسيقى حتى الرسم والتصميم والأدب والشعر والغناء والرقص وغيرها، لتمتعنا وتثقفنا وتستفز فينا الحواس والمشاعر، وتفتح أعيننا على عيوبٍ وقضايا أتعبتنا، وكدنا نغض البصر عنها.
من أقدم الفنون التي تجلت في تاريخ البشرية، إن لم يكن أقدمها، وأقواها، وأكثرها صمودًا، رغم كل التطورات والتكنولوجيا والرقميات، إلاّ أنه لا بديل لهذا الفن المباشر الذي يحاكينا بأربع عيون.
تدريس المنهاج بواسطة الدراما
لقد كان اهتمام الأمم المتطورة بالمسرح جيّد جدًا، رغم قلة تلك الأمم المؤمنة بأهميته البالغة في التربية والتعليم، حيث وجدوا من خلال تجاربهم وبحوثهم التي تناولوا فيها كيفية استخدام المسرح كوسيلة معبرة ومشوقة، لما تتصف به من تثبيت للمعلومة، وفهم أفضل من أي وسيلة تعليمية أخرى، حيث تستفز حواس الطالب وتختزل الكثير من الجهد والوقت في تعلم البشر بمختلف أعمارهم.
ومن هذه الدول التي طورت مساق الدراما في التعليم كانت بريطانيا، التي أسست مدارس كاملة تدرّس المنهاج الوطني البريطاني كاملًا بواسطة الدراما.
ففي السنوات الأخيرة، أُعطيت الدراما في التعليم أساسًا راسخًا في النظرية والتطبيق من جانب معلمين بارزين أمثال: ليفن بولتين ودوروثي هيثكوت (هيثكوت هي معلمة دراما بريطانية حاصلة على رتبة فائقة الامتياز ضمن الإمبراطورية البريطانية وهي مؤسسة منهاج الدراما في التعليم الذي وصل إلى فلسطين سأتحدث عنه لاحقًا)، فقد أثبت البحث والمراقبة الذي أجرياه جدوى استراتيجيات الدراما وتوظيفها في تعليم الكثير من موضوعات المنهاج، في جميع المراحل العمرية، وقد أصبح واضحًا أن الاهتمام والدافعية والتعلم أمور تتحقق جميعها عندما توظف المسرح والدراما في التعليم.
لقد التحقتُ في مساق الدراما في تعليم سنة 2012، وكنتُ واحدة من مجموعة معلمين من كل العالم العربي، احتضنتنا مؤسسة عبد المحسن القطان الفلسطينية، في المدرسة الصيفية المقامة في جرش (الأردن)، ضمن مشروع من أهم مشاريع المؤسسة لتأهيل المعلمين وتدريبهن على استخدام الدراما في تدريس المناهج من خلال ما ابتكرته هيثكوت وما أُطلق عليه "الدراما التكونية"، حيث يكون فيها المعلمون والطلاب منشغلون بالاستفسار والاستكشاف، ويحدث التعلم في هذا الأسلوب من خلال التعاون والتفاعل والمشاركة والانخراط في الأدوار. ومن خلال البرنامج التأهيلي، يكون العمل على منح المعلم مهارات وأدوات وتقنيات تفاعلية، إضافة إلى فهم عميق لطبيعة الدراما والمسرح، وكذلك تدريب المعلمين على كيفية بناء دروس لا تنقل المعلومات للطالب فحسب، بل تشكّل تجربة تعليمية مشتركة، تثير طرح الأسئلة والتفكّر والتّأمل والتّعلم العميق.
والحلم الكبير والأكبر، أن تتوفر هذه التدريبات لمعلمين في المجتمع العربي من أجل النهوض والصعود والتّقدم بمدارسنا العربية، وخلق طالبٍ مبدعٍ مفكر ناقد متعمق كما يسمو إليه برنامج الدراما في التعليم لمؤسسة عبد المحسن القطان.
في المقابل، بمدارسنا العربية في الداخل الفلسطيني المحتل، يكاد الاهتمام بتدريس الفنون عامة وتدريس المسرح خاصةً، او استخدام المسرح والدراما كوسيلة للتعلم، يكاد يكون معدومًا تقريبًا للأسف، باستثناء تجارب قليلة جدًا جدًا لمدارس تكاد تكون بعدد أصابع اليد الواحدة لا أكثر.
وذلك يعود لعدة أسباب أهمها قلة الأبحاث والدراسات العلمية التي تشير إلى أهمية هذا المجال، رغم أهميته البالغة كون الفنون عامةً والمسرح والدراما خاصةً وسيلتان مجديتان جدًا للتعلم، وهذا ما أعمل عليه خلال هذه الفترة، دراسة بحثية ستخرج النور قريبًا.
كذلك جهل قيمة هذا العالم عالم المسرح وسحره في تكوين مناخٍ مدرسي مغاير، مختلف، مثير، ونتائجه مضمونة.
بالإضافة إلى نقص حاد في المختصين المؤهلين أكاديميًا في هذا المجال، لذلك قمت بالعمل على مشروع مسرح أكاديميا من خلاله أحاول شرح أهمية هذا الموضوع في المدارس الثانوية ضمن التوجيه الأكاديمي لطلاب الثواني عشر، ومساعدة الطلاب في الاندماج في الجامعة ودراسة المسرح بشكل مهني علّني بذلك أحدُث قليلاً من التغيير المنشود.
أهمية المسرح في التعليم
علّ هذه السطور لا تكفي لرصد وشرح أهمية الدراما والمسرح في التعليم، ولكنني سأحاول اختصارها علَّ من يقرأ هذه السطور أن يقتنع ويبادر في تبني هذا النهج في المدارس.
سأبدأ بأهم ما أراه بعيني أولاً وهو بثّ روح المرح والنشاط في نفوس الطلاب مما يجعلهم أقرب وأحب إلى الحياة المدرسية، في عصرٍ ملّ فيه الصغير والكبير من منظومة التعليم التقليدية.
ثانيًا خلق جيل واعٍ وواثق، حيث يقوم المسرح على تعزيز ثقته بنفسه ويكسر حاجز الخوف لدى الطلاب، ويطور مهارة الإلقاء وفنونه.
ثالثًا يُعدّ المسرح وسيلة لتهذيب النفوس كما ذكرت في مستهل حديثي، وتربية الوجدان والتنمية المجتمعية والقيم وكسب المهارات، وتنمية الشخصية بجوانبها المعرفية والانفعالية.
رابعًا يمنح الطلاب فرصة ومساحة خاصة، لاستكشاف المادة الدراسية إذا كانت (تاريخية، أو أدبية، أو علمية أو غيرها) بجوٍ ممتعٍ ومفيد، والتعبير عن هذه المواد بصورٍ نابضة ترسخ بأذهانهم تفاصيل التفاصيل للمادة المطلوبة. وبذلك يتحقق أهم عناصر التعليم وهو الدافعية عند الطلاب التي تتلاشى سنة بعد أخرى.
خامسًا دمج المسرح في التعليم، قد يزيد من انتماء الطلاب للمدارس، وخاصةً بعد خوض تجربة العرض والتمثيل أمام الطاقم المدرسي والأهالي، مما يمنح الطلاب الشعور بالإنجاز والفخر ولهذا أثر بالغ في نفوس الطلابِ وأهاليهم وإثارة اهتمامهم وانتماءهم للمدرسة.
إضافة إلى الكثير من المنافع التعليمية والاجتماعية قد تعد ولا تحصى، وقد تملأ هذه النشرة ولا تكفي لحصرها.
والحلم الكبير، بعد تجربة عمل في المسرح من جيل الحضانة حتى الأكاديمية، أن نعي لقيمة هذا الفن العظيم، ونجعله حاضرًا فاعلاً في مدارسنا العربية لنبني من خلاله الطالب الانسان الواعي الواعد المثقف المحاور المحترِم للاختلاف والمتقبل لوجهات النظر في زمنٍ يكاد الطالب أن يكون فيه لا أكثر ولا أقل من شريكٍ خامل غير فعال، رغم قدراته العظيمة في إحداث التغيير.
كاتبة المقال: هيام ذياب وهي ممثلة مسرحية ومعلمة متخصصة في المسرح الجماهيري الاجتماعي.