عن سياسة نُخب تأخّرت عن مواعيدها
يبدو لي أن هناك فارقًا بين قوة مجتمعنا/شعبنا هنا ووزنه النوعيّ الاستراتيجيّ وبين تمثيله في الكنيست أو في الأطر الجامعة. في اعتقادي أن مجتمعنا أقوى بكثير من التمثيل الحالي وأن الوزن السياسيّ أكبر بكثير مما يُمارَس. بمعنى أن التمثيل متأخّر عن طاقة مجتمعنا السياسية والإنسانيّة. أو إنه ـ التمثيل ـ غير جاهز لحمل كامل الطاقة الكامنة في مجتمعنا وتحويلها إلى فعل سياسيّ مؤثّر. يصير الوضع أكثر تعقيدًا إذا ما عرفنا أن القوى الفاعلة لا تعي الإمكانيات السياسيّة وحجم قدرات مجتمعها في المنظومة الحاليّة كلاعب أساس وليس كلاعب احتياط يلوذ في ظلّ نُخب إسرائيلية وأخرى فلسطينية. يبدو لي واضحًا أن النُّخب الفاعلة عندنا لا تزال تمارس فعلها السياسيّ من فرضيّة أنها "ملحق" للمسألة الفلسطينية وهذا ما يمنع التعامل مع نفسها كلاعب سياسيّ كامل العضويّة والحقوق و"هامش" للمواطنة الإسرائيليّة، وليس تحدّيًا لها.
يأتي هذا الخلل الذي يُعيق السياسة العربية من عوامل تاريخية واجتماعية وسياسيّة وتنظيمية عديدة وأهمّها ثلاثة: الأول؛ غياب قراءة مُحتلنة للواقع لدى النُخب عندنا، تنفذ إلى صميمه وتُحيط به إحاطة منهجية علمية يتمّ تعميمها؛ علمًا أنّ هناك اجتهادات فردية لافتة هنا وهناك. أمّا القراءات الحزبية المعتمدة فهي جهويّة محدودة، تقادمت جدًّا خاصة وأنها متأثّرة بأيديولوجيات منهارة أو مأزومة. من هنا تأتي دعواتي المتكرّرة إلى القيادات أن تجتهد في تحديث قراءتها للواقع السياسي والإقليمي والدولي الذي نعيش وسطه خاصة في ضوء ما حصل ويحصل في الإقليم بعد الثورة المضادة للربيع العربيّ وفي المجتمع الإسرائيلي. أمَّا العامل الثاني، فهو العجز التنظيمي الواضح. فالقواعد التنظيمية هي، أيضا، متقادمة غير قادرة على حمل المُستجدّات لا سيما التحوّلات الاجتماعيّة ـ الاقتصاديّة داخل مجتمعنا. فلا الأحزاب تطوّرت تنظيميًا (تبدو لي من مشاهداتي جامدة أو في تناقص) ولا الهيئات الجامعة قادرة على حمل الراهن خاصة وأنها تنوء تحت أعباء الماضي. لنأخذ لجنة المتابعة مثالًا. فهي محصّلة توازنات قوى في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، ولم تستطع إلى الآن أن تشمل مراكز القوى الجديدة في مجتمعنا ولا هي عدّلت من قراءتها للأوضاع ولم تُنتج نصًّا جديدًا معتمدًا. ومن هنا تبدو لي عاجزة عن القيادة وعن التمثيل معًا. في حين أنَّ العامل الثالث، يتمثَّل في أنّه ـ لا تزال أوساط قياديّة بيننا مرهونة في قرارها وتوجّهاتها للخارج ـ السلطة الوطنية أو جهات عقائديّة في الإقليم أو لمموّلين. عامل يُجهض كل محاولة جادة لتشكيل إرادة جمعية معقولة وقادرة. وهو عامل يمنع، أيضا، وجود قراءة جمعية للراهن تُفضي إلى مشروع وطني جامع.
كل هذه الأمور وغيرها تحول دون تحويل الطاقة السياسية الكامنة في مجتمعنا هنا إلى فعل سياسيّ مؤثّر. ولنأخذ مثلًا "القائمة المُشتركة" في عزّها. فبدل تثميرها والانتقال بها إلى حالة تنظيميّة أرقى وأكثر تكاملًا تمّ تفكيكها بأيدينا. كان يُمكن مثلًا أن تُبنى حولها شبكة واسعة من الهيئات والأطر المفكّرة والتنفيذيّة المتخصّصة لتوسيع التمثيل، والانتقال من ديمقراطيّة تمثيلية إلى ديمقراطية تشاركيّة واحتواء كفاءات ومهارات بشريّة جديدة وتجديد السياسة ومعانيها. لكن ما حصل هو النكوص عن إنجاز تجميع القوى، وانقضاض "الحرس القديم" في كلّ الأطر على ما مثّلته من خطوة تنظيميّة جامعة وعلى الأفق الذي فتحته التجربة لتطوير حالة سياسيّة جديدة واعدة. كأن النُخب نفسها خافت من قوّتها" الاحتماليّة فارتدّت عنها إلى "مناطق الراحة" أو إلى "المألوف" من "فصائليّة" مقيتة وتميّز مفتعل ـ كما تتجسّد بوضوح في الحملات الانتخابيّة للأطر العربيّة هنا.
لا أقلّل من شأن إسقاطات الانهيارات العربية في الإقليم وشأن الوهن الشديد الذي أصاب المشروع الوطني الفلسطيني على العرب الفلسطينيين في إسرائيل لجهة اتساع حلقة اليأس من "السياسيّ" والعزوف عنه وفقدان الثقة بممثّليه. ومع هذا، لا يُمكن إعفاء النُّخب السياسيّة عندنا من القصور في تطوير حالة سياسيّة جديدة كانت أشّرت عليها وثائق التصوّرات المستقبليّة وتقارير استراتيجية صدرت عن مجموعات فلسطينية هنا وفي الخارج. بمعنى أن الأطر السياسيّة امتنعت عن الاستفادة من معرفة سياسية استراتيجية تراكمت بفعل طاقات وخبرات كامنة فيها.
في المحصّلة يعدم الفلسطينيون في إسرائيل أي مشروع سياسيّ جماعي وأي إرادة سياسيّة مبنيّة عليه وتستمدّ نفسها منه. هذا في وقت صارت مواطنتهم في إسرائيل عُرضة للإلغاء دستوريًّا بعد قانون القومية الذي أشار إلى جهة الريح في السياسة الإسرائيليّة الذاهبة إلى مساواة مكانة العرب الفلسطينيين غربيّ الخط الأخضر (المفترض) بمكانتهم شرقيّ هذا الخط. أو بعبارة أخرى، مصادرة حقّهم الانتخابيّ وتحويل إسرائيل إلى نظام تمييز عنصري. بمعنى أننا ذاهبون إلى مزيد من التعقيد والعنف السلطويّ ضد الفلسطينيين على كامل الأرض بين البحر والنهر كجزء من سعي إسرائيل الرسمية إلى تثبيت نظامها العنصريّ وإخضاع الفلسطينيين. من هنا، من هذه القراءة التي لا تتطلّب الكثير من الجهد والتنظير كان على النُخب السياسيّة أن تعزز من حالة انتظامها السياسيّ واصطفافها لاعتراض السيناريو المُشار إليه أو لإعداد شعبها للتحدّيات التي يفرضها. لكن بدل ذلك رأيناها تنزع إلى التفكيك والنكوص من "حالة المُشتركة" إلى فصائليّة لا تغني ولا تُسمن في مثل هذه الظروف.
كشفت الجولة الانتخابيّة الجارية مثلما فعلت الجولات الأخيرة ضعفنا التنظيميّ كشعب وتأخّر السياسة عن مواعيدها. وستكون نتائجها فرصة أخرى للتأمّل واستخلاص الدروس. وكلّي أمل ألا يكون الاستخلاص على غرار ما كان في جولات الانتخابات الأخيرة.
وهي عوامل تمنع قبل ذلك تطوير مشروع سياسيّ جديد وجامع يشكّل قاعدة نظريّة للفعل السياسيّ. بل ـ وللأسف ـ تبدو المشتركة مفكّكة أكثر مما هي مُشتركة بالفعل، كما يُراد لها من الجمهور العربي الذي زكّاها.
مرزوق الحلبي
حقوقيّ ومستشار استراتيجي ومنسّق المجموعة الفلسطينية في الداخل للتفكير الاستراتيجي ومتخصّص السياسة في دول الشرق الأوسط