عنف الاحتلال البيروقراطي وأثره على صحة أهالي القطاع

تطبيق السياسات الإسرائيلية بالتعامل مع قطاع غزة دائمة التغيّر منذ فرض الحصار عليه، لكن ما يميزها هو حدة السيطرة الإسرائيلية وتضيّق الخناق على قاطني القطاع. تتلاعب إسرائيل بالسياسات التي تفرضها على القطاع للتنصل من الواجبات والمسؤوليات المفروضة عليها كجسم محتل، وعلى رأسها السماح بحرية الحركة والتنقل من وإلى القطاع كونها حق أساسي لتحصيل حقوق أخرى، مثل الحق لتلقي العلاج الطبي أو زيارة الأقرباء المرضى المشتتين بين القطاع وخارجه. يفرض الاحتلال الإسرائيلي بين الفينة والاخرى سياسات ومعايير مختلفة وجديدة، أشبه بأن نسميها بظواهر موسمية تتمثل بالمماطلة بسيرورة إصدار التصاريح وتبعث اليأس والعجز في نفوس متقدمي الطلبات.

منذ حصار قطاع غزة فرض الاحتلال الإسرائيلية معايير محدودة يجب استيفائها للتقدم بطلب تصريح للخروج من القطاع. لكي يتمكن الفلسطيني في غزة من زيارة عائلته التي تسكن في الداخل الفلسطيني او في الضفة الغربية، يجب أن يتوفر لديه حالة انسانية من الحالات المعدودة والضيقة التي تفرضها منظومة التصاريح الإسرائيلية. في غالبية الأحيان تشترط إسرائيل الزيارات بين أبناء العائلة الواحدة المشتتة بين القطاع وخارجه أن يكون القريب/ة من الدرجة الأولى فقط وأن تكون الزيارة في حالات محددة وهي، زيارة لمريض بوضع حرج، مشاركة بجنازة أو مشاركة بزفاف.

سأتوقف أولًا على حالات الزيارات للمرضى. يتوجب على كل فلسطيني من سكان غزة يريد زيارة قريب من الدرجة الأولى خارج القطاع، يعاني من مرض شديد ارفاق المستندات اللازمة التي تستوفي الشروط الإسرائيلية. تشترط المعايير الضيقة التي حددتها إسرائيل ان يكون المريض بوضع حرج، أي لا يمكن للفلسطيني أن يرى أمه/ أباه (من ضمن القربى الاولى) إلا إذا كانوا في وضع صحي خطير. في ظل سياسات الفصل الإسرائيلية بين أبناء الشعب الواحد، صار للمرض مكانة أخرى لدى أبناء العائلات المشتتة كونه صار السبيل للقاء.

مع هذا، وحتى لو استوفى الشخص كل المعايير أعلاه وقدم كافة المستندات اللازمة، الحصول على تصريح للخروج غير مضمون. تتجاهل مديرية التنسيق والارتباط الإسرائيلية (الجهة المسؤولة عن معالجة طلبات تصاريح الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة( مئات الطلبات ولا تنظر بها للمعالجة مع أن الكثير من الطلبات طارئة وعامل الزمن فيها أساسي ومفصلي. هذه السياسات تؤدي بالفلسطينيين في القطاع بالتقدم في عدة طلبات لنفس المريض ونفس الحالة، وفي الكثير من الأحيان بسبب المماطلة الإسرائيلية، يُلزم الفلسطينيين بتقديم تقرير طبي جديد ومُفصل لحالة المريض الصحية. هنا تكمن إحدى الاشكاليات التي يخلقها الاحتلال عن طريق المعاملات البيروقراطية لعرقلة الحصول على تصريح، فكون السلطات الإسرائيلية تُهمل معالجة الطلبات لفترة طويلة، نرى في العديد من الحالات ان صحة المريض تحسنت خلال هذه الفترة ولا يمكن إرفاق تقرير طبي جديد، وبهذا لم يعد مقدم الطلب مستوفٍ للمعايير الإسرائيلية الصارمة. المؤلم أكثر هو الموت، فيتحول طلب الزيارة المرضية إلى طلب المشاركة بجنازة وتبدأ معه رحلة شاقة أخرى.

تابعنا في مسلك - مركز للدفاع عن حرية الحركة والتنقل، طلب دخول سيدة (تسكن في الداخل) لقطاع غزة لزيارة أبيها المريض الذي لم تلقاه منذ عدة سنوات. هذا الطلب كغيره من الطلبات لاقى المعيقات من دولة الاحتلال، فبعد الاهمال لأشهر بمعالجة الطلب كما هو شائع، طلبت الجهات الإسرائيلية تقرير مُحدّث يُفصّل الوضع الصحي لأباها، وبالرغم من تقديم كافة المستندات مرة أخرى أعادت السلطات الإسرائيلية الكَرّة واهملت الطلب لأشهر وطالبت مرة اخرى بتقرير طبي جديد. أتذكر جواب صاحبة الشأن التي قالت بنبرة حزينة: ""ما بقدر أجيب كمان طلب، لأن أبوي تحسن"". لنبرة الحزن في صوتها لها وقع آخر، فتحسن حالة والدها كانت البشرى التي انتظرتها لكن حزنها جاء لأنها خسرت فرصة لقاءه حين كان في وضع حرج، فالمرض، كما قلت أعلاه، أخذ سمة أخرى وصار وكأنه ""الفرج"" للقاء الأهل والأحبة.

ينطبق هذا العنف البيروقراطي أيضًا على تصاريح الخروج لحالات إنسانية طارئة أخرى مثل الخضوع للعلاج الطبي الغير متوفر في القطاع. فمن متابعتنا الميدانية رأينا في عدة طلبات تصريح خروج للعلاج أن يستُدعي المريض من قبل المخابرات الإسرائيلية لما يسمونه ""مقابلة أمنية"" في حاجز بين حانون (إيرز). هذه مشقة أخرى تبدأ في ساعات الصباح الباكرة عند وصول المريض للحاجز، ينتظر بالساعات ويخصص يومًا كاملًا لكي يقابلونه بأسئلة مهينة ليستوفوا معلوماتهم حول نشاطاته هو وممن يحيطه، فكيف لمريض بأن يتحمل هذا؟! كما وردنا بالآونة الاخيرة توجهاتٍ عديدة لمرافقي مرضى قوبلت طلباتهم بالرفض الأمني دون أن يعوا أسبابه، ففي إحدى الحالات الموجعة التي وصلتنا تم منع أم مرضع من مرافقة طفلتها البالغة من العمر أربعة أشهر لتلقي علاج لمرض بالدم، فأجبرت الأم على ارسال طفلتها الرضيعة للمشفى بمرافقة خالها كونه يحمل تصريح عمل.

من خلال عملنا بمؤسسة مسلك اعتدنا على فرض تغييرات دائمة في السياسات والبيروقراطية الإسرائيلية بوجه سكان القطاع. فمثلًا، واجهنا مؤخرًا رفض السلطات الإسرائيلية النظر بطلبات تعرّفها هي نفسها على أنها ""طلبات إنسانية"" لفلسطينيين يريدون الدخول او الخروج من قطاع غزة، لأنها تحتوي على وثائق رسمية تحمل شارة السلطة الفلسطينية ومعنونة بـ""دولة فلسطين"". إحدى هذه الحالات ظهرت خلال عملنا على التماس قد قدمناه للمحكمة المركزية بإطار ملف لسيدة تسكن في غزة تريد الخروج برفقة أبنائها الثلاثة لزيارة والدهم المريض في الضفة الغربية. استعد الوالد حينها لعملية جراحية خطرة في القلب وانتظر قدومهم ليتسنى له اجراءها بسبب حاجته للرعاية المنزلية لاحقًا. خلال مرافقتنا للملف أرفقنا لطلبها الأخير مستندات طبية محدثة، لكن خلال جلسة المحكمة علمنا أنه تم رفض معالجة هذا الطلب والبت فيه بسبب شارة على التقارير الطبية كتب عليها ""دولة فلسطين"".

كل الأمثلة التي ذكرت أعلاه هي تجلٍّ للعنف البيروقراطي الذي يعاني منه الفلسطينيون. فالحق لأبناء العائلة المشتتة الواحدة باللقاء متى أرادوا ومن دون أي شروط، غير وارد حتى في الحالات الإنسانية الحرجة القصوى.

سيرين علي

مركزة توجهات الجمهور في جمعية "جيشا – مسلك"

شاركونا رأيكن.م