قبل تسع سنوات وبالتّحديد في حزيران من عام 2013م أقرّت الكنيست الإسرائيليّة قانونًا يقضي بتجميع العرب في النّقب وفي قرى وتجمّعات سكنيّة، وجاء هذا القانون مغلّفًا بذرائع شتّى كأن أهمّها تمكين الحكومة من توفير الخدمات اللازمة للمجتمع العربيّ الجنوبيّ، والعمل على تقديم خدماتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة بشكل أفضل، ولكنّ الحقيقة والحاجة التي كانت في نفس يعقوب كانت ترمي إلى ما هو أبعد من ذلك، فالبدو الذين اعتادوا على الاستقلاليّة العشائريّة والعائليّة في أماكن سكناهم، الذين حدت بهم عاداتهم وتقاليدهم من الاختلاط بالعائلات الأخرى، لا يمكن أن يقبلوا بجار غريب يجاورهم في نفس المكان؛ فتكون النّتيجة عودة لحرب داحس وغبراء جديدة، أضف إلى ذلك إلى أنّ هذه العائلات ستكون محدودة التوّسع في المكان، الأمر الذي يجعل الزّوجين يسعيان إلى تقليل عدد الأبناء وتحديد النّسل، وهو ما يسعى بكلّ تأكيد الطّرف الآخر للوصول إليه، لنكون حينها أقليّة بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى.

إنّ النّاظر بعين ثاقبة لمواقع بلداتنا العربيّة على خريطة الدّولة سيرى بأمّ عينيه موقعها السّجين المحاط بالبلدات اليهوديّة التي تمنع منعًا تامًا لبلداتنا وقرانا العربيّة من مجرد التّفكير في توسعة مساحتها الجغرافيّة، لنعود مرّة أخرى إلى معادلة ولعبة توازن القوى البشريّة في الدّولة، حيث تصبح البنية الديموغرافيّة السّكانيّة للعرب قاب قوسين أو أدنى من التّلاشي مع مرور الزّمن، ليغدو حلم الأقليّة التي تناظره الدّولة قريب المنال، ولعلّ ذلك يتبدّى جليًا فيما تعانيه مدينة رهط تحديدًا ثاني أكبر مدينة عربيّة من ضائقة سكنيّة خانقة، حتّى بات الاقتتال على متر أرض صباح مساء، لتطفو على السّطح حلولًا تبدو في ظاهرها حلولًا مشروعة، نابعة من حرص الدّولة على مصلحتنا، ولكنّ الأمر مخالف لذلك تمامًا، فالأبراج السّكنيّة التي اُقترحت كحلول بديلة لحلّ الضّائقة؛ ستغدو البندقية التي سيحملها كل جار لجاره، ويبدأ العرب تصفية بعضهم بعضًا.

قبل شهر تقريبًا ثار سكّان مدينة رهط تحديدًا على عدم وضع اسم البلدة على الشّوارع الجديدة التي اُفتتحت على مشارفها، وتعدّ رهط من المفترقات الرئيسيّة في هذه الشّوارع، ولكنّ اسمها لم يظهر مطلقًا، وعندما اعترض النّاس الذين كانوا أكثر وعيًا من السّابق؛ وجدنا رسائل المسؤولين بنيّتهم تغيير هذه اللافتات، ليضاف اسم المدينة عليها، ومنذ ذلك اليوم لم يتغيّر شيء، فمن أهمّ الأهداف لهذا التّغافل، أو التّغييب هو أن لا يكون لقرانا ومدننا العربيّة وجود على الخريطة الجغرافيّة مع مرور الزّمن، أيعقل أن يكون اسم المنطقة الصّناعيّة (عيدان هنيجيف) اسمًا على اللافتة وهي مجرد دونمات معدودة، في حين يسقط اسم المدينة الحاضنة أو الأمّ لهذه المنطقة؟ أيعقل أن يوضع اسم مدينة يهوديّة بعيدة على عن منطقة المفترق، في حين يغيب اسم المدينة التي لا تفصله عنها سوى أمتار معدودة، في الحقيقة: إنّ الحكومة تعي جيدًا أنّ العرب سرعان ما ينسون، فغضبهم وحزنهم وأفراحهم قصيرة الأمد، لا إصرار لديهم ولا دوام متابعة في كثير من الحالات.

إنّ برافر لم يكن ذلك المشروع الذي تداولته أروقة الكنيست، بل كان مصير شعب بأكمله، بدأ من النّقب إلّا وسيمتدّ لشمال البلاد ووسطها وجنوبها، برافر الذي بدا في ظاهره دعوة من أجل حقّ الشّعب في العيش بكرامة من خلال توفير المرافق اللازمة لهم، ولكنّه كان بالمقابل الصّفعة التي كنّا نرجو أن يستفيق على أثرها النّقب.

صور برافر كثيرة متنوّعة نعيشها كلّ يوم في شوارع بلداتنا، حين نرى المساجد العائليّة والمدارس والملاعب والعيادات العائليّة نحن لم نكن يومًا بهذا الوهن، لقد كنّا أمّة وحدّنا الإسلام، وغرس فينا قيمًا أخلاقيّة عظيمة، ولكنّنا أضعنا بوصلة هذه الطّريق.

تسع سنوات مرّت على برافر، ولكنّه يأتينا كلّ يوم بحلّة جديدة، حاملًا بين طيّاته مشاريع استيطانيّة جديدة تحت مسمّى مصلحة النّقب، من يناظر حال القرى غير المعترف بها التي ما زالت تناضل من أجل أرضها، من يناظر نقل عائلات من خارج مدينة رهط للسّكن فيها، وأهلها في أمسّ الحاجة لهذه الأرض؛ لا بدّ وأن يدرك أنّنا أمام تخطيط استراتيجيّ يسعى إلى تلاشي العرب بعد عدد من السّنوات كفاقعة صابون، فها هي أراضينا تنسلّ من بين أيدينا، وكأنّها بساط يُسحب من تحتنا دون أن نشعر، ولربّما حتّى لو كنّا نشعر بذلك حقًّا ، إلّا أنّنا كالنّعامة التي تضع رأسها تحت الرّمال، ظنًّا منها أنّ الصّياد لا يراها، وهي تدرك تمامًا أنّ الصّياد يقترب دون حتّى أن يتربّص بها، وهي تجلس مطمئنة اطمئنان كاذب أنّها بخير.

ألم أقل لكم منذ البداية: إنّ برافر يزورنا كلّ يوم بحُلّة جديدة!!!

تصوير: وليد العبره."

سماح أبو رياش

حاصلة على اللقب الأوّل والثّاني بامتياز في اللغة العربية، وطالبة دكتوراه بتقدير ممتاز في المرحلة النّهائيّة في اللغة العربيّة، ومحاضرة في مراكز تطوير المعلمين في نفس المجال لمعلّمي المرحلة الثّانويّة، ومدربة تنمية بشريّة ومصحّحة بجروت ومعلّمة في مدرسة ثانويّة

شاركونا رأيكن.م