يقول ابن خلدون إنّ ""الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها"". استذكرت مقولة ابن خلدون هذه كثيرََا هذا العام عندما كنت أتساءل عن حالة اللامبالاة التي يعيشها غالبية أهلنا في النقب خاصّة حِيال ما يجري على المستويَين السياسي والاجتماعي. اعتقدْت بأنّ ارتفاع نسبة التعليم وتحسين الظروف المعيشية والعمل المجتمعي الدؤوب ستوفّر حالة من الوعي والاهتمام في الصالح العام والنهوض بالمجتمع نحو الأفضل.

ما رأيته وما عايشته خلال هذا العام أضاء بعض الجوانب التي طالما غابت عني ليس لغيابي الطويل عن النقب (بالرغم من أن علاقتي المهنيّة والعمليّة لم تنقطع قط) وإنّما لكون بعض هذه الظواهر أصبحت هي السائدة وأصبَحت الدولة تمارس قمعها وتعسّفها نحو المواطن العربيّ في النقب دون خجلٍ أو محاسَبة وفي الوقت ذاته يمارس المواطن القمع والتعسف ذاته اتّجاه أبناء وبنات وممتلكات مجتمعه دون خجل أو خوف أو حساب.

فتهدم الحكومة بيوتََا وتصادر الأرض والممتلكات ونخرج في مظاهرات ومسيرات احتجاجيّة غالبََا بالعشرات وقلّة ما تخرج بالمئات وإذا خرجنا لا توظّف هذه المظاهرة أو المسيرة لا إعلاميََّا ولا سياسيََّا على الاقلّ على المستوى البعيد فيبقى نشاطنا رهن حالة النزوة وتفريغ الغضب.

وفي حالة القتل والجريمة المتفشية في المجتمع، فالوضع أكثر ترديََّا، فلا مظاهرة ولا احتجاج وتسود حالة الصمت وكثيرٌ من الإخراس خاصّة إذا كانت المغدورة امرأة.

فكم من مرّة خرجت فيها لمظاهرة، كنّا فيها قلّة والأدهى عندما يمرّ بك أحدهم ويقول (انت فاظية) وكأن وقته هو مليء بالاختراعات والإنتاج وفي الغالب يكون عاطلََا عن العمل.

إنّ حالة اللامبالاة هذه تقتصر على النضال المجتمعيّ والسياسيّ، فقط فهناك جوانب فيها المبالاة والاهتمام تفوق التصوّر السليم، فَمثلََا الأعراس والإسراف فيها والتباهي بشكليّات الأمور وترك جوهرها والانشغال بعضنا ببعض والشرذمة الاجتماعيّة والحقد والعنف كلها ظواهر كانت ولكنها ازدادت في السنوات الاخيرة، بطريقةٍ تدعو إلى القلق خاصّة وأنّ اللامبالاة من جهة والشعور بالعجز حيالها من جهة أخرى يدعو للقلق.

فكنت كلّما سمعت صوت إطلاق الرصاص أتّصل بالشرطة والتي غالبََا لنْ تأتي وإذا أتَتْ تكتفي بالوقوف على ناصية الشارع حتّى ينتهي إطلاق النار.

وعندما تحثّ الناس على عمل شيءٍ ما للتّصدي لمثل هذه الظاهرة، يتملّكه الخوف قائلََا: لا أريد أن أكون الضحيّة القادِمة ..لا شأن لي بذلك ..أمشي الحيط الحيط ويقول يا رب الستر "" وأكثر ما كان يزعجني هو ""هذا الأمر لا يعنيكي ""فأصبح حيّز حياتنا أقل من ١٠٠ متر، فخارجه لا يعنيني ..لا أملك غير بيتي وبالكاد حديقته وسيارتي دون الطريق.

فما العلاقة بين هذه الظواهر المجتمعيّة وبين التعسّف السياسيّ المستَمِرّ؟

وهل تعكس هذه الصورة مقولة ابن خلدون؟ وهل ما يجري في المجتمع من عنف وإجرام وهدر وانحلال خلقيّ هو نتاج لقمع سياسيّ والقهر التي تمارسه السلطة ضدّ مجتمعنا على مدار الخمس وسبعين سنة الماضية؟

نعم هناك علاقة طردية بين الصورتين وتكاد تكون الواحدة انعكاسا للأخرى فيقول ابن خلدون من كان مُرباه بالتعسف وسطََا به القهر والقمع وضيّق حيّز الحياة عليه فإنّه يتبنّى سبل النجاة لكي يستطيع البقاء والمضي في الحياة فيلجأ إلى الكسل والكذب والخبث و التظاهر بغير ما في ضميره، والمكر والخديعة وفساد معاني الإنسانية وتموت الأخلاق فتتحوّل سبل النجاة وأساليب البقاء إلى نهج حياة يدافع عنه المقهور ويتغنّى به وكأنّه موروث يعتزّ ويفخر به وهو ما وقع لكلّ أمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها القمع والاضطهاد.

هل يعني ذلك أن نسلّم بالأمر وهل هذه النظرية تصلح لتفسير حالة جميع الشعوب المقهورة؟ وهل سلمت الشعوب بقدرها أم أدركت حالة التناغم بين القهر والفساد الأخلاقيّ وتحدت واقعها وظروفها وعملت على استعادت منظومة أخلاقها و كرامتها.

هناك الهند التي أنهكها الاستعمار البريطانيّ ونهضت واستعادت قواها وتعتبر من أهمّ اقتصاد في العالم وهناك اليابان التي ألقت أمريكا القنبلة الذرّيّة على أكبر مدنها هيروشيما وناجازاكي ودمرتهن بالكامل فاستعاد اليابان عافيتها لتكون من أكثر الدول إنتاجا في العالم . فاستعادت الشعوب لذاتها السليمة يتم فقط من خلال تحررها الذاتي وإدراكها بأن الواقع ليس قدرا محتوما وإنما يجب أن يتوفر الوعي و الإرادة الكاملة لدى المجتمعات وهذا في الغالبية يتعلق بقدرة الشعب على إفراز قيادة صادقة واعية وملتزمة بمصلحة المجتمع وهذا ما ينقص مجتمعنا في النقب اليوم.

فليس كل من يحمل منصب يستطيع أن يقود مسيرة تغيير وليس كل من ينتخبه المجتمع يعتبر قائدا واعيا ومدركا لمقومات التغيير ففي حال مجتمعاتنا فإن كثيرا ما يكون اختيار الممثلين صوره طبق الأصل لذات واقع المجتمع فكما تكونوا يولى عليكم فالجاهل ينتخب من هو أجهل منه حتى لا يهدد وجوده.

فحتى نستطيع اختيار قيادة استراتيجية يجب أن نعمل على توعية المجتمع وتثقيفه حتى يستطيع اختيار الإنسان المناسب في المكان المناسب.

ففي النقب هناك كوادر واعية ومثقفة وصادقة ولكن للأسف إما أن تكون قد أصابها مرض اللامبالاة وإما خائفة فثمن المشي ضد التيار باهظ وإما أن تكون مخرسة ومقموعة.

تصوير: وليد العبره.

د. أمل الصانع – الحجوج

محاضرة وباحثة ومديرة عامة لمنظمة PLEDJ الكندية

شاركونا رأيكن.م