"تعمليش من الحبة قبة!" بوح النساء بالتحرشات الجنسية في أماكن العمل

مقاضاة المشغل الذي تقاعس عن أداء واجباته القانونية في منع ومعالجة التحرشات الجنسية في العمل

تعاني الكثير من النساء العربيات في أماكن العمل من التحرشات الجنسية، تلتزم النساء الصمت في أغلب الأحيان خوفًا من فقدان مصدر رزقها وانضمامها الى صفوف العاطلات عن العمل، فالبطالة في صفوف النساء العربيات كما هو معلوم شائعة ومقلقة، كما ان معظم مواقع القوة والصلاحية في العمل يتبّوأها الرجال بينما تحظى النساء بدرجات وظيفية أدنى، وتمكّن هذه المواقع رجالا كثيرين من استغلال قوتهم لممارسة الضغوط وتوجيه مطالب جنسية تجاه النساء المسؤولات منهنّ مما يساهم ايضًا في عدم بوح النساء عما تتعرض له من تحرشات جنسية وتنكيل في العمل وأسباب أخرى.

قانون منع التحرش الجنسي في أماكن العمل-1998 والأنظمة المنبثقة عنه يفترضون أن مسؤولية خلق بيئة عمل آمنة من التحرشات الجنسية ملقاة على عاتق المشغّل. يدعم القانون المنطق بأن على المشغل ان يمنع ويعالج التحرشات الجنسية بشكل ممنهج كجزء من مجموعة إجراءات للقضاء على ظاهرة التحرش الجنسي.

وعلى الرغم من أن قانون منع التحرش الجنسي لا يشكَل حماية في كل الحالات التي فيها طابع جنسي ومس بكرامة النساء، بسبب تعريف التحرش الجنسي بشكل ضيّق وفق خمسة أشكال فقط، فإن القانون ساهم بتداول مسألة التحرشات والاعتداءات الجنسية وشجع الكثيرات على الكشف عن تعرضهن لتحرشات جنسية للمطالبة بمعاقبة المتحرش. كما أن القانون يحمي الرجال والنساء على حد سواء، إلا أن غالبية الشكاوى على أرض الواقع تم تقديمها من قبل نساء وغالبية المشتكى ضدهم هم من الرجال.

يحدد القانون واجبات المشغل في منع حدوث تحرشات جنسية في العمل ومعالجتها في حال حدوثها. يكمن وراء هذه المسؤولية افتراض أن المشغل لديه أفضل الإمكانيات الوقائية في العمل كما ولديه واجبات ائتمانية تجاه موظفيه ويجب عليه الاهتمام بسلامتهم وتوفير بيئة عمل خالية من أعمال التحرش الجنسي. الغرض من القانون هو إنشاء آلية محددة للمسؤوليات والواجبات والتي من المفترض أن تجلب في نهاية الأمر لخلق بيئة عمل آمنة للموظفين عامةً والموظفات خاصةً.

ومن بين الواجبات الملقاة على المشغل بخصوص منع حدوث تحرش جنسي في العمل:

إعداد وصياغة نظام داخلي حول منع التحرش الجنسي ونشره في مكان بارز في مكان العمل وتقديم نسخة منه لأي موظف يطلبه، توضيح واجباته للموظفين بشأن المنع والمعالجة بموجب القانون والأنظمة، السماح للموظفين والموظفات بالمشاركة أثناء ساعات العمل في أنشطة تدريبية حول الموضوع بتكرار معقول، تحديد أن التحرش الجنسي والتنكيل يعتبران مخالفات تأديبية خطيرة في مكان العمل، تعيين مسؤولة عن منع التحرش الجنسي مناسبة نيابة عن المشغّل. (في مكان عمل فيه اقل من عشرة موظفين يمكن للمشغّل بنفسه أن يكون المسؤول عن الأمر).

وأمّا عن واجبات المشغل فيما يتعلق ""بمعالجة"" شكاوى التحرش الجنسي في العمل:

تنفيذ استيضاح في الشكاوى عن التحرش الجنسي بكفاءة وبدون تأخير، إجراء استيضاح مع الأخذ بعين الاعتبار توفير أقصى قدر من الحماية لكرامة وخصوصية الأطراف، حماية المشتكية أثناء إجراءات الاستيضاح من الضر بشؤون عملها، معالجة قضية التحرش أو التنكيل بواسطة اتخاذ قرار في الأمر في غضون سبعة أيام من يوم تلقي الملخص والتوصيات من قبل المسؤولة والسعي لعدم تكرار حدوث حادثة تحرش جنسي مرة أخرى في العمل.

إن مسؤولية المشغل في الحماية والمنع بكل ما بتعلق بقضايا التحرش الجنسي، تقع عليه حيال كل قضية تحرش تتعرض لها موظفة أثناء قيامها بعملها من قبل موظف آخر أو من قبل أي شخص مكلف من قبل المشغّل. بالإضافة إلى ذلك، تقع على المشغل مسؤولية تجاه أي شخص، مثل: عملاء، مزودين، متطوعين، قد تعرضوا لتحرش جنسي من قبل موظفيه. وبحسب القانون، فإن المشغل الذي لم يقم بواجباته في منع ومعالجة حادثة تحرش جنسي في العمل، او تقاعس في أداء واجباته، معرّض للغرامة الجنائية من جهة، وإلى دعوى مدنية من جهة أخرى والتي يحق للمتحرش بها رفعها ضده بالتوازي مع رفع دعوى ضد المتحرش نفسه. مدة تقادم قضية تحرش جنسي في العمل هي سبع سنوات من موعد حدوث الفعل نفسه.

في وظيفتي في اتحاد مراكز المساعدة لضحايا الاعتداءات الجنسية، أتلقى العديد من التوجهات من موظفات تعرضن لتحرش جنسي في مكان عملهن وقدمن شكوى للمشغل، ولكن لم يتم معالجة الشكوى كما يجب، او تم الاستهزاء بالشكوى والتعامل معها على أساس أن لا دخان بدون نار وفق أحكام مسبقة، وأنه لا داعي لتضخيم الأمور وقد يُطلب من الموظفة الانتقال لمكتب آخر أو قسم آخر في العمل كخطوة تحل وتنهي المسألة.

أخريات لا يقدمن أي شكوى لأنهن سبق ورأين كيف تعامل المشغل مع شكاوى موظفات أخريات أو لأن المسؤولة عن الأمر غير مهنية وليست موضع ثقة بالنسبة لهن، أو لأن من تحرش بهن هو المدير، أخريات لا يقدمن شكوى خوفًا من خسارة مصدر رزقهن، أو خوفًا من أن يعلم أزواجهن أو عائلاتهن عن تعرضهن لتحرش جنسي في العمل ومنعهن من الخروج للعمل أكثر. ولا شك أن للنظرة المجتمعية التي تلوم النساء على تعرضهن للتحرش الجنسي، ولنسبة البطالة العالية في صفوف النساء العربيات، دور في تراجع النساء في هذه الحالات عن تقديم شكوى والخوف من البوح بما تعرضن له.

في جميع هذه الحالات يؤدي صمت المتحرش بهن عن التحرش الجنسي الذي تتعرض له في العمل لإسقاطات نفسية في غاية الصعوبة، لانخفاض رغبتهن في العمل والإنتاج، ولارتفاع ملحوظ في أيام غيابهن عن العمل، البعض منهن بلغن عن استقالتهن من العمل أو انتقالهن لقسم اخر، أيّ إن الضرر الذي يلحق بالنساء بسبب تعرضهن للتحرشات الجنسية ليست بالهين أبدًا.

وقد يعكس الوضع في السلطات المحلية، كأكبر مشغل في المجتمع العربي، تعامل المشغل المستهتر مع قضايا التحرش الجنسي في أماكن العمل ومعاناة الموظفات نتيجة لهذا الاستهتار. فقد تم تعيين مسؤولات عن منع التحرش الجنسي في أغلب السلطات المحلية العربية كما يلزم القانون فقط قبل حوالي ثلاث سنوات بعد أن تم تقديم دعاوى قضائية ضدهن. وقد أشار تقرير مراقب الدولة عام 2020 أن في الثمانية أعوام التي سبقت إعداد التقرير تم تقديم ثمانية شكاوى فقط لتحرشات جنسية في السلطات المحلية العربية، الأمر الذي لا ينبع من عدم وجود حوادث لتحرشات جنسية هناك، إنما لعدم وجود عنوان للموظفات لتقديم الشكاوى ولعدم وجود وعي كافٍ حول سيرورة معالجة حوادث التحرشات الجنسية.

في الحقيقة معظم المتوجهات يتوجهن لفحص إمكانية مقاضاة المتحرش نفسه ولا يستوضحن إمكانية مقاضاة المشغل. في ظل هذه الحقيقة وحقيقة غياب منظومة رقابية لتطبيق قانون منع التحرش الجنسي في أماكن العمل، يبدو أنه ليس هنالك ما يدعو المشغل للمواظبة على تطبيق بنود القانون وتنفيذ واجباته، وبحساب بسيط قد يصل المشغل لاستنتاج أن التعويضات التي يمكن أن يدفعها في دعوى قضائية احتمال تقديمها من قبل موظفة ضعيف جدًا أقل بكثير من تكلفة العمل على المنع والمعالجة في العمل.

لا شك أن حسابات المشغل هذه لا أساس منطقي لها، حيث إنها لا تأخذ بعين الاعتبار المس بإنتاجية العمل، فإن مكان العمل الذي لا يخلق بيئة عمل آمنة من التحرشات الجنسية يكون عرضة أكثرـ لغيابات كثيرة من قبل الموظفات، مصاريف طبية، أيام مرضية، المس بجودة العمل وإنتاجيته وسمعته، وخسارات مالية بسبب انخفاض الرغبة في العمل وفي الشعور بالالتزام نحو مكان العمل، وبالتالي فإن تكلفة تقاعس المشغل عن تنفيذ واجباته ضخمة جدًّا.

إن مقاضاة المشغل بسبب عدم تطبيق واجباته كما يملي عليه القانون أو للاستهتار بشكوى قد قدمت إليه ولم يتم معالجتها كما يجب أمر في غاية الأهمية من أجل تعزيز المصلحة والمسؤولية العامة والوعي لدى المشغلين بواجباتهم، ومن أجل أن يكون ثمن الإهمال والاستهتار بقضايا التحرشات الجنسية في أماكن العمل من قبل المشغلين عبرة لمشغلين آخرين، الأمر الذي من شأنه أن يصب في مصلحة مناهضة ظاهرة التحرشات الجنسية. ومن هنا هنالك أهمية كبيرة لحث النساء العاملات على تقديم شكوى ضد المشغل في حال تعرضهن لتحرش جنسي وتم إهمال الأمر من قبله.

هنالك من يدعي أن تحويل مسؤولية معالجة شكاوى التحرش الجنسي للمشغل تؤدي إلى حجب هذه الشكاوى عن الرأي العام، لأن معالجتها تنحصر داخل مكان العمل وعدم وصولها لأروقة المحاكم والأجهزة التنفيذية، وقد يضر هذا الأمر بمعالجة الشكوى على أفضل نحو، ولذلك ومن المهم أن نؤكد على وجود مسارات متعددة يمكن للمتحرش بها اختيارها في حال تعرضها للتحرش الجنسي بحسب تفضيلها ورغبتها وظروف الحادثة.

أخيرًا، التحرش الجنسي والتنكيل ليس قدرًا مكتوب على النساء يجب عليهن تحمله والتخبط وحدهن بتبعياته، يجب خلق بيئة آمنة للنساء خالية من التحرشات الجنسية والاعتداءات في كل مكان، والتي من شأنها أن تتيح للنساء العيش بكرامة وحرية، القيام بعملهن وتطوير انفسهن بشكل سليم، كما أن على المشغلين القيام بمسؤولياتهن الكاملة من خلال تذويت حق النساء بالعمل ببيئة آمنة كحق أساسي أولًا ثم تنفيذ واجباتهن المنصوص عليها في القانون، هناك أهمية لإنشاء جهاز رقابة صارم لتطبيق القانون في أماكن العمل الذي من شأنه حماية النساء وتوفير بيئة عمل امنة وعادلة، ويجب ألا ننسى أن مناهضة هذه الظاهرة مسؤوليتنا جميعًا، وأن لا أساس من الصحة للادعاء القائل إن المسألة خصوصية وتقع خارج نطاق التدخل المجتمعي.

المحامية رغدة عواد

متخصصة في المجال المدني، والدستوري وناشـطة اجتماعية ونسوية

رأيك يهمنا