العمالة الفلسطينية في غزة والمعاناة المزدوجة

تكشف العمالة الفلسطينية في الداخل وجهًا إضافيًا لعقود من الاحتلال الإسرائيلي والسيطرة على حياة الفلسطينيين. الواقع الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي بشكل متعمّد دفع بالكثيرين للبحث عن عمل في الداخل الفلسطيني لتأمين مصدر رزقهم. بالمقابل، تستغل إسرائيل هذا الواقع لتعميق سيطرتها وصياغة علاقات القوة بينها وبين الفلسطيني مع اصدار كل تصريح. تنظر إسرائيل إلى مسألة العمالة غالبًا على أنها ""تسهيلات"" تقوم بها كلفتة ""إنسانية"" بهدف مساعدة سكان غزّة، ولكن، تثبيتها في السياق الفلسطيني والتعمق في تفاصيلها يكشف لنا تركيبات هذه الحكاية. إن تأطير السياسات الإسرائيلية على أنها ""لفتات إنسانية"" هو تغطية لجرائمها اليومية بحق كل فلسطيني وفلسطينية، وتهدف، من بين أمور أخرى، لتعميق السيطرة الإسرائيلية على كافة نواحي الحياة الفلسطينية أيا كانت، وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة.

وصل عدد حالات خروج الفلسطينيين من غزة عبر حاجز بيت حانون (إيرز) قبل اندلاع الانتفاضة الثانية إلى نصف مليون حالة خروج شهريًا بهدف العمل في الداخل. منذ اندلاع الانتفاضة الثانية قامت إسرائيل بتقليص عدد التصاريح للخروج من القطاع، وخلال الأعوام 2006 و- 2007، حين تم تشديد الحصار، منعت إسرائيل حركة الغالبية العظمى من سكان القطاع، ومن بينهم العمال.

بعد الحرب الدامية على القطاع في عام 2014 قامت الحكومة الإسرائيلية بالسماح لقلة قليلة من السكان بالخروج بحسب معايير فرضتها بنفسها، تضمنت حصة 5,000 تصريح بما يسمى ""تصريح تاجر"" للتجار ورجال الأعمال. خلال السنوات التي عقبتها تبين أن الأغلبية مِمّن يحملون تصريح تاجر هم بالواقع عمال باحثين عن عمل خارج القطاع. بالرغم من الصعوبات التي ترافق سيرورة استصدار ""تصريح تاجر""، إذ يتطلب استثمار آلاف الشواقل في ظل واقع اقتصادي بالغ الشدة، ومع العلم أن تقديم الطلب لا يضمن الحصول على التصريح، إلا أن الالاف جازفوا واستثمروا بكل ما يملكون (حتى لو اضطروا لطلب قروض أو بيع ممتلكاتهم) من أجل الحصول على فرصة العمل خارج القطاع.

هذه المجازفة ليست بعبثية ولاستيعابها يجب التعمق في واقع قطاع غزة الذي ولَّدهُ الحصار الإسرائيلي. منذ فرض الحصار، تسيطر إسرائيل على حركة الأشخاص والبضائع، فكل ما يدخل أو يخرج من وإلى القطاع عن طريق الحواجز الإسرائيلية منوط بموافقتها. هذه السيطرة المطلقة دهورت واقع القطاع في العقد ونصف الأخيريين وفرضت بشكل متعمد، واقعًا جديدًا قيّد إلى حد الشلل، القطاعات الاقتصادية. شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعا حادا بنسب الفقر والبطالة بين السكان، فأكثر من نصف سكان القطاع يعتمدون بشكل أو بآخر على المساعدات الإنسانية وتراوحت نسبة البطالة بين الـ 40 حتى الـ 50 بالمئة. مثلًا، في الربع الرابع من العام 2021، وصلت نسبة البطالة في القطاع إلى 45 بالمئة (61 بالمئة بين النساء و- 40 بالمئة بين الرجال)، ووصلت إلى 61 بالمئة بين من تتراوح أعمارهم من 15 إلى 30 سنة. فكيف يمكن لأي شخص أن يعيل أسرته تحت وطأة الخناق الإسرائيلي؟ كيف يمكن لرب أو ربة أسرة تلبية احتياجات عائلتهم ومعدل راتب المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يصل إلى ما يقارب الـ 650 شيقل فقط؟

دفع هذا الواقع المعقد الذي خلفه الحصار الإسرائيلي بالكثيرين من سكان غزة للبحث عن كل فرصة لكسب العيش خارج القطاع، حتى تحت ظروف وشروط عمل صعبة. تعتبر إسرائيل العمل من دون تصريح مخصص للعمل في الداخل غير قانوني، الأمر الذي يفسح المجال لاستغلال حقوق العمال الأساسية ويحد بشكل كبير من إمكانيات تفاوض العامل مع المشغل. خلال سنوات من البحث الميداني استمعنا لشهادات من عمال رفض المشغل دفع اتعابهم أو تمّ فصلهم من العمل من دون سبب. الكثيرون لا يعملون عند المشغل نفسه بشكل ثابت، ويستغلون كل فرصة للعمل حتى لو اضطروا للتنقل من مكان عمل لآخر كل يوم. آخرون تحدثوا عن الخوف والمخاطر من الإصابة خلال العمل، قال لنا أحد العمال: ""سقطت أثناء عملي من الطابق الثالث، للوهلة الاولى ظننت أن إصابتي بسيطة، لكن بعد ثلاث ساعات زاد الألم، لم يكن أمامي الكثير من الإمكانيات، لا أستطيع الذهاب إلى أي عيادة طبية، انتظرت حتى صباح اليوم التالي وعدت إلى غزة بسيارة أجرة لتلقي العلاج. لم يسأل المشغل عني أو عن سلامتي، وبالطبع لم تعتبر هذه الفترة عطلة مرضية، بل إجازة غير مدفوعة"".

بالإضافة لما ذُكر، من الأمور الخطيرة التي يواجهها عمال القطاع هي ظاهرة السمسرة، حيث يستغل سماسرة التصاريح حاجة العمال لإيجاد عمل وانعدام الرقابة من قبل السلطات الاسرائيلية للكسب المادي مقابل توفير مكان عمل. من الإفادات التي وصلتنا مؤخرًا نرى أن الكثير من العمال يضطرون للتنازل عن مبالغ كبيرة من راتبهم للسماسرة، حيث تصل المدفوعات إلى آلاف الشواقل شهريًا.

خصصت إسرائيل في بداية عام 2022 حصة 20 ألف تصريح عمل في الداخل لسكان القطاع. مع هذا، إصدار تصاريح عمل دون منظومة ملائمة ترافق تطبيقها لا يحمي أبدًا حقوق العمال، فتجربة العمالة من الضفة الغربية لا تخلو من المخاطر والصعوبات كون السلطات الإسرائيلية غير معنية بالحفاظ على حقوق العامل الفلسطيني. بحسب أبحاث قامت بها مؤسسات حقوقية مختلفة، يدفع العمال من الضفة الغربية الاف الشواقل شهريًا لسماسرة التصاريح ولا يحصلون على كافة حقوقهم الأساسية بالرغم من امتلاكهم تصريح عمل.

تستغل إسرائيل بشكل روتيني سيطرتها على الحركة من وإلى القطاع من خلال نظام التصاريح الذي تفرضه بهدف المكاسب السياسية. فمثلًا، منعت إسرائيل في 24 و- 25 نيسان خروج العمال والتجار من غزة كخطوة عقابية على إطلاق الصواريخ من القطاع وقالت أنها ستسمح بخروجهم مجددًا بشرط الحفاظ على ""الهدوء الأمني"". هذا الواقع الذي ترسمه إسرائيل يفرض بشكل متعمد تعلق الاقتصاد في القطاع بسياسات إسرائيل العنيفة ونظام تصاريحها الصارم ويمنع من العامل حتى الشعور بالاطمئنان والاستقرار الاقتصادي، فالخروج من القطاع وكذلك مدة التصريح تحددها قبضة الاحتلال الإسرائيلي.

كاتبا المقال: علاء خاطر وجوانا جبارة من مؤسسة ""مسلك - مركز للدفاع عن حريّة التنقل"".

الصورة: للمصوّر- الصحافي الغزي أشرف أبو عمرة."

علاء خاطر

محام، يعمل في مؤسسة "مسلك- مركز للدفاع عن حريّة التنقل"

شاركونا رأيكن.م