التكيّف مع سوق العمل المتغير والأمان المفقود

من كان ليتصوّر منذ قرن ما سيكون عليه العالم الذي نعيش فيه اليوم؟

يشهد عالم العمل تحوّلات جذرية بسبب العولمة والتغيّرات التكنولوجية التي تفتح أبوابا جديدة لتحقيق الازدهار. حيث يوفّر التقدّم الحاصل في عالم التكنولوجيا الرقمية، بما فيها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فرصا جديدة أمام العمّال والشركات. التغيّرات المناخية والتحولات الديموغرافية والهجرة أيضا تؤثر على سائر المجتمعات والعمّال والشركات، لأنّ الطلب على بعض الوظائف سيتغيّر، وبعضها الآخر سيزول، ووظائف كثيرة لن تعود كسابق عهدها.

المهارات المطلوبة وأنماط عمل جديدة

ويستدعي التطور الحاصل في عالم العمل اكتساب مهارات جديدة والتركيز على التعلّم المستمر. سيزداد الطلب على المهارات التقنية لحلّ المشاكل وابتداع الأفكار مع انتشار التشغيل الآلي واستخدام الأجهزة الروبوتية مثلا. كذلك سيزيد الطلب أيضا على ""المهارات الشخصية""، كالقدرة على التواصل بشكل فعّال مع الآخرين، والعمل ضمن الفريق الواحد، وإيجاد حلول مبتكرة للمشاكل، والتكيّف مع الأوضاع المتغيّرة في البيئة المحيطة.

ويتعيّن على النظم التعليمية والتدريبية أن تزوّد القوى العاملة بالمهارات والكفاءات اللازمة في المستقبل. ويجب اتخاذ التدابير اللازمة في السياسات لتوثيق الروابط بين معاهد التدريب ومؤسسات العمل. ولا بدّ من إقامة توازن بين ضمان جودة التدريب وتلبية الطلب على برامج تدريبية أكثر مرونة وأقصر وقتا.

ويعتبر قطاع الأعمال المحرك الأساسي لاقتصادنا ومولّد الازدهار ومصدر فرص العمل. لكنّ دوره هذا لا يحجب المخاوف المتزايدة التي يثيرها، انطلاقا من أنّ الحرص على مكافأة المستثمرين والدائنين يأتي على حساب البيئة ورفاهية العمّال.

وتشمل أنماط العمل هذه التعاونيات العمالية وجمعيات المنفعة المتبادلة والمشاريع الاجتماعية، التي تستجيب خير استجابة لاحتياجات فئات المواطنين والمجتمعات المحلية. فبحسب البحوث التي أجرتها منظمة العمل الدولية، تبيّن أنّ:

تلك الشركات هي أقلّ قابلية لنقل أنشطتها الإنتاجية محليا أو إلى خارج الحدود، ما يخوّلها استحداث فرص عمل والحفاظ على الفرص الموجودة على السواء.

غالبا ما تكون في طليعة الساعين إلى إنعاش المجتمعات المحلية وإنقاذ الشركات المعرّضة لخطر الإفلاس.

وأثبتت فعاليتها في جمع الموارد اللازمة للشركات الصغيرة أو أصحاب المهن الحرة العاملين لحسابهم الخاص.

الإيفاء بالركائز الأربعة للعمل اللائق

بمعنى آخر لن يتوقف الطلب على العمل والعمّال، في الوظائف التي تعطي الحيّز الأكبر للتفاعل الإنساني، وحيث يُطلق الإنسان العنان لحسّه الإبداعي ويحقق تطلعاته. لذلك، ما زالت الركائز الأربعة للعمل اللائق، أي توفير الوظائف والحماية الاجتماعية والحقوق في العمل والحوار الاجتماعي، تلقى الأهمية ذاتها التي كانت لها منذ 100 عام، وهي التي تحمل مفاتيح المستقبل الذي قد نفخر به جميعا.

وضع حدّ للفقر

يؤدّي التفاوت في مستويات الدخل والبطالة والحرمان إلى الشعور بالعزلة الذي يولّد بدوره عدم الاستقرار والنزاعات والتطرف المشوب بالعنف. في المقابل، يساهم تعزيز فرص الحصول على وظائف نوعية في زيادة المداخيل وقيام مجتمعات أكثر تلاحما وإنصافا. من هنا ضرورة زيادة فرص العمل، كمّا ونوعا، لإرساء العالم الذي نطمح كلنا إلى العيش فيه.

هل المساواة بين الجنسين ستحد من الفقر؟

يشكّل التطور الحاصل في عالم العمل فرصة مواتية لإزالة العوائق البنيوية التي تحول دون تحقيق المساواة بين الجنسين، والتصدّي لمشكلة عدم المساواة في مكان العمل وضمن مجتمعاتنا. تتولّى المرأة في سائر أنحاء العالم الجزء الأكبر من الرعاية غير المدفوعة الأجر والأعمال المنزلية، ما يمنعها في أغلب الأحيان من عدم المشاركة في القوى العاملة. لذا، تتعزّز فرص المرأة بالانضمام إلى صفوف القوى العاملة عند إضفاء طابع رسمي على أعمال الرعاية.

يجب العمل على جملة مشاريع لمساعدة المرأة في الحصول على تعليم نوعي والخضوع للتدريب على المهارات لتحسين فرصها في إيجاد عمل لائق.

""ليست المساواة بين الجنسين مجرد هدف وحسب، بل هي شرط مسبق لمواجهة التحديات الناشئة عن الحدّ من الفقر، وتعزيز التنمية المستدامة، وإرساء الحكم الرشيد."" كوفي أنان.

الاستثمارات المدرّة لفرص العمل

يعيش ملايين الأشخاص في مناطق تفتقر إلى البنية التحتية الحيوية من طرقات أو جسور أو إمدادات المياه والكهرباء أو الإنترنت. وكثيرون محرومون من أبسط الخدمات الأساسية كالماء والصحة والتعليم. لذا، يؤدّي الاستثمار في مشاريع البنى التحتية إلى تحسين المستوى المعيشي لدى الأشخاص ويؤثّر بشكل مباشر على نوعية حياتهم. فباستخدام اليد العاملة والموارد المحلية في بناء البنية التحتية التي تشتدّ الحاجة إليها، وإشراك المجتمعات المحلية في عملية التخطيط، تتوفّر فرص العمل وتتقلّص الكلفة وتتدعّم الصناعات المحلية؛ ناهيك عن أنّ تلك الجهود تعزّز قدرات الشركات المحلية التي تصبح أكثر فعالية. بدورها، تتراجع معدلات الفقر في المدن والأرياف، ويتحسّن مستوى الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لدى الأفراد والمجتمعات. ولكي يتحقق النمو والإنصاف والاستدامة لأجيال الحاضر والمستقبل يجب:

  • زيادة الاستثمار في القدرات البشرية

  • زيادة الاستثمار في مؤسسات العمل

  • زيادة الاستثمار في العمل اللائق والمستدام

شركات قوية

في عالمٍ محكوم بلعبة العولمة واشتداد التنافس، تنتظم أسواق العمل بشكل أفضل عندما تنجح المؤسسات المتحكّمة بها في إرساء بيئة تكفل للعمّال المدخول والحماية الاجتماعية والمهنية، فيما تمنح الشركات المساحة المطلوبة لتحقيق الازدهار. لذا، تحتاج أسواق العمل إلى تدعيم أطر سياساتها وتحصين شركاتها لضمان فعالية أدائها.

يجب وضع السياسات وتطبيقها، من خلال تفعيل الحوار بين الحكومات وممثلي العمّال وأصحاب العمل. من خلال برنامج توفير خدمات التوظيف والمعلومات عن أسواق العمل، بدعم الهيئات العامة المسؤولة عن خدمات التوظيف. وتضطلع هذه الأخيرة بدور أكثر أهمية في مجالات مطابقة الوظائف، سعيا منها إلى تعزيز احتمالات التوظيف، ومعالجة معضلة عدم تطابق المهارات مع احتياجات سوق العمل، وتحسين سبل الربط بين أصحاب العمل والعمّال. من أبرز فوائد هذا البرنامج هو أنه لا يتيح للمشاركين تطوير خبراتهم من خلال اكتساب المهارات التقنية والكفاءات الشخصية والاجتماعية وحسب، بل يخوّلهم أيضا الاختلاط في النسيج الاجتماعي ضمن مكان العمل. أمّا بالنسبة إلى أصحاب العمل، فالتدريب في مكان العمل يساعد في زيادة الإنتاجية عن طريق سدّ النقص في المهارات.

أمثلة لبعض القطاعات الرئيسية التي قد توفّر فرص عمل في المستقبل

قطاع الرعاية

يشمل العمل في قطاع الرعاية تقديم خدمات الرعاية الصحية، ورعاية الأطفال، والتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، ورعاية ذوي الإعاقة والرعاية طويلة الأجل، ورعاية المسنين، إلى جانب خدمات كثيرة أخرى. في ظلّ التحولات الديموغرافية التي يشهدها العالم، وشيخوخة السكان في أغلب البلدان المتقدمة، ينطوي قطاع الرعاية على بعض من الإمكانيات الكبرى لتوفير فرص عمل في المستقبل.

تشير بعض البحوث بأنه من المحتمل توفير 269 مليون فرصة عمل جديدة إذا تضاعف حجم الاستثمار في قطاعات التعليم والصحة والعمل الاجتماعي بحلول العام 2030.

قطاع العمل عبر الإنترنت

توفّر الابتكارات التكنولوجية فرصا جديدة للعمل عن بعد وعبر الإنترنت. فالوظائف المتاحة في ظلّ هذا القطاع والتي يكون فيها العامل لديه عدة وظائف قصيرة المدى أو يبرم عقودا مع أكثر من صاحب عمل عبر الإنترنت عوض الالتزام بعلاقة عمل تقليدية شبه دائمة مع صاحب عمل واحد، تمنح العمّال فرصة لكسب الدخل والشراكات لتنظيم العمل بطريقة مغايرة.

هذا فضلا عن أنّ هذا القطاع يمنح العمّال المستبعدين عادة عن سوق العمل، بسبب إعاقة أو واجب الرعاية أو المرض مثلا، المزيد من فرص العمل. في المقابل.

عصر الروبوت

يسهم التقدّم المحرز على مستوى التكنولوجيا المتخصصة والمتطورة في تسريع وتيرة المكننة في مواقع العمل وزيادة الطلب على أجهزة الروبوت الصناعية. لا شكّ أنّ معدلات التشغيل الآلي المتراوحة بين 10% و60% في بعض أماكن العمل ستطيح حتما ببعض الوظائف. لكن، من هذا المشهد القاتم يلوح بصيص أمل يسلّط الضوء على التحوّلات الطارئة في مجال العمل وإعادة توجيه مهارات العمّال.

فثمّة حاجة إلى ربط نظم الأجهزة الآلية بالشبكة وصيانتها وتطوير أدائها، ما يعزّز احتمالات استحداث وظائف جديدة، خاصة بالنسبة إلى الأشخاص ذوي الخلفية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. بالإضافة إلى ذلك، من غير المستبعد أن يحلّ مطوّرو البرمجيات والمختصون بأعمال البرمجة محل أصحاب المهن اليدوية في مستقبلنا، إذ يتبيّن في الاقتصادات المتقدّمة أنه لكل 1,000 موظف في قطاع التصنيع 14 جهاز روبوت، يقتضي إخضاعها جميعا للصيانة بانتظام. وهذا الرقم مرشّح للارتفاع.

سلاسل التوريد العالمية

أصبحت عملية إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها أكثر تعقيدا من ذي قبل. ففي الماضي، كانت الشركات تركّز إنتاجها في بلدان أو مناطق معيّنة. أمّا اليوم، فأخذ نشاطها الإنتاجي يتوزّع عبر شركات عالمية عابرة للحدود تهدف إلى تحقيق أقصى قدر من الربح وأقلّ قدر من الهدر. وكانت تلك السلاسل قد أحدثت في الواقع تحولات هائلة في الاقتصاد العالمي في العقود الثلاثة المنصرمة، إذ شكّلت حافزا للنمو وتوفير فرص العمل، خاصة في الدول النامية.

تتنوّع الوظائف في سلاسل التوريد العالمية بتنوّع البلدان التي تتواجد فيها، وقد أتاحت لمزيدٍ من الأشخاص إيجاد فرص عمل في هذا القطاع. رغم إمكانية استبدال الكمّ الأكبر من تلك الوظائف بآلات، لا سيما في قطاع الصناعات التحويلية الخفيفة، فقد بيّنت البحوث التي أجرتها منظمة العمل الدولية عدم جدواها الاقتصادية في المناطق النامية في الوقت الراهن، نظرا إلى ارتفاع كلفة الآلة مقابل انخفاض كلفة اليد العاملة، فضلا عن القدرة المحدودة على استيعاب التكنولوجيا المستحدثة. ولكن، ماذا عن المستقبل؟

في ظلّ انخفاض تكاليف الآلة مع مرّ الوقت، يصبح انتقال الجزء الأكبر من مرافق الإنتاج مجديا من الناحية الاقتصادية. الأمر الذي قد يؤدّي إلى إعادة ترتيب سلاسل التوريد العالمية، بما أنّ المناطق النامية ستفقد وظائف لصالح الآلة في المناطق المتقدّمة. وبالتالي، فإنّ فقدان الوظائف واشتداد المنافسة على الوظائف الباقية قد يتسبّبان بضغوط تسفر عن تدهور الأجور وظروف العمل.

حازم خطاب

مدير JobHub - مشروع التشغيل، التدريب والتطوير للمصالح الصغيرة والمتوسطة في المؤسسة السويدية Star For Life ومؤسس ورئيس الأمناء لمؤسسة Jerusalem High-tech Foundry

شاركونا رأيكن.م