القضية الفلسطينية على وقع انهيارين.. السلطة أم الهيكل؟

قرار إسرائيل تحطيم أية فرصة لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة (دع عنك مستقلة) هو قرار نهائي لا رجعة عنه ويكتسب، يوماً إثر آخر، مزيداً من المؤيدين ولم يعد أنصاره "محشورين" في أقصى يمين الخارطة الحزبية الإسرائيلية، بل باتوا في مركزها والمستقبل لا يحمل سوى مزيدٍ من انزياحات المجتمع الإسرائيلي وانحيازاته نحو التطرف الديني والقومي. هذا ما تقوله السياسة الاسرائيلية بوضوح وما يتم تنفيذه على الأرض يوميًا.

مقابل، ذلك يجري تكريم إسرائيل بسخاء من العالم العربي، وتحديدًا دول الخليج العربي والمغرب، التي بدأت تعتمد على اسرائيل أكثر فأكثر، بدلًا من معاقبتها ولو ديبلوماسيًا على الأقل. فالعلاقات البحرينية الإماراتية مع إسرائيل تتوسع على المستويين العسكري والاقتصادي، وليس على المسار الأمني فقط. وثمة تبدل في الموقف السعودي حيال التطبيع مع إسرائيل، من اشتراطه إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران، كما تنص المبادرة العربية التي قدمها الأمير عبد الله بن عبد العزيز في قمة بيروت، وصلنا إلى إبداء استعداد إسرائيل لمفاوضات جادة لقيام دولة فلسطينية، وربما يصل الاشتراط إلى ما دون ذلك. ويسير المغرب بخطوات متسارعة لترسيخ علاقات استراتيجية مع إسرائيل، على غرار تركيا.

على القاطع العربي المتصالح مع إسرائيل بمعاهدات ذات صفة دولية، وليست ثنائية كما باقي العرب المطبعين (مصر، السلطة الفلسطينية والأردن)، تبدو الأمور أكثر التباسًا. فرغم ملمح التوافق والاتفاق، إلا أن تحت الطاولة تضادات لا تخفى على أي عين مراقبة. فمصر تريد الاطمئنان إلى خاصرتها في غزة ومطحونة تحت عبء اقتصادي ثقيل، في حين أن الأردن مشغول بالضفة الغربية ومآلات انهيار السلطة أو انتفاضة ثالثة والعين الأخرى على الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية التي تتعرض كل ساعة إلى انتهاك صارخ ولن يكون آخرها منع السفير الاردني من تفقد الأقصى. أما السلطة فتعيش لحظات النزع الأخير والكل، الدولي والعربي، يضع يده على قلبه ابتداء من اليوم الأول بعد رحيل الرئيس محمود عباس، سواء بالحل البيولوجي أو بمبدأ السقوط الاستراتيجي للسلطة.

أمام هذا الافتراق العربي والميوعة الفلسطينية، سواء بحكم الانقسام أو غياب الشرعية وظروف الحرب الدائرة في أوكرانيا والتي تشغل أوروبا أكثر من المنطقة وحاجة الولايات المتحدة إلى الناخب المنحاز إلى إسرائيل، تمارس الحكومة الشوفينية في إسرائيل كل إمكاناتها لتثبيت وقائع على الأرض تمنع حتى التفكير بدولة فلسطينية تحت أي شكل، سواء قابلة للحياة أو بواسطة التنفس الاصطناعي، وتلغي أية إمكانية لدولة واحدة. في المقابل، هي تسعى إلى يهودية الدولة بخطوات واضحة وثابتة. نحن، إذًا، أمام "حال الدولة" وليس حل الدولة أو الدولتين. وهنا يبرز الدور الأردني، أو المعضلة الأردنية بتعبير أدق. فهي بلا ظهير حقيقي في هذا الملف وتدرك بيقين أن الخيار الأردني أو عودته هو الأكثر معقولية في ظل الظرف السائد عربيًا ودوليًا، لكنها تدرك خطورة هذا الحل وتدرك أنه سينقل الصراع من مستواه الحالي، كصراع فلسطيني – إسرائيلي إلى صراع أردني - فلسطيني من ناحية وصراع أردني - إسرائيلي من ناحية أخرى ولن يقبل الأردن أن تكون دبابته هي التي تحمي إسرائيل أو بديلاً للدبابة الإسرائيلية.

الأدوات الأردنية محدودة جدًا في مواجهة هذا الحل. فهي، كما أسلفنا، بلا ظهير عربي وطائرات الخليج عبرت الأجواء الأردنية مباشرة نحو تل ابيب وليس في تفكيرها المواجهة الاقتصادية من خلال إلغاء الاتفاقيات الاقتصادية الكبرى (الغاز والكهرباء والمياه). أي أنها ستبقى تراوح في الملعب السياسي في انتظار أن تتأزم الحالة الفلسطينية، إما بانهيار السلطة أو باشتعال انتفاضة ثالثة ترفع من كلفة الاحتلال الإسرائيلي، رغم أنها ترفع الكلفة على الأردن أيضًا، لكنه أقل الأضرار حسب التقديرات الأردنية وتراهن، تاليًا، على رفع منسوب القلق في العواصم العربية المطبعة والعواصم الدولية.

ثمة خيط رفيع أبيض يراود عقول ووجدان بعض التكوينات الفلسطينية والعربية، وفق المحلل السياسي عريب الرنتاوي، ملخصه أن الهيكل سينهار من الداخل. فإسرائيل تعيش حالة من انتعاش هوياتها الفرعية، احتدام الصراع فيما بينها، الانقسام الديني العلماني وزيادة حدة الاستقطاب بين الكيانات والمكونات الإسرائيلية المتنافسة، إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، تآكل أعمدة "الحكم الرشيد" واختلال التوازن بين السلطات لصالح السلطة التنفيذية دائماً. كذلك، سطوة السلطة السياسية على الإعلام، إرهاصات تشكُّل ميليشيات عقائدية سائبة وتراجع مكانة "سيادة القانون"، تفشي الدعوات لتطبيق "الشريعة اليهودية"، تسييس الدين وتديين السياسة (صهينة الدين وتديين الصهيونية)، فساد الطبقة السياسية واضطرارها لتفصيل قوانين وتشريعات على مقاس "نمر أحذية" أركانها، كما حصل عند تمرير قانون بن غفير وقانون سموتريتش وقانون درعي، في أول اجتماعات الكنيست الـ 25، في تجسيد سافر لفكرة "الحكم بالقانون"، عوضاً عن حكم القانون. 

المتابع للجدل بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل سيجد أن أكثر العبارات شيوعاً في سجالاتهما هي "انهيار الدولة"، "حرب أهلية"، "تحريض على العنف والقتل" و"خراب الهيكل". هذه الظاهرات لم تبلغ خواتيمها بعد في إسرائيل، لكنها بدأت تتفشى وتتفاقم، بالتوازي مع بداية الحديث عن تفسخ السلطة وانهيارها وكأن قدر فلسطين في هذه الظروف أن تعيش على وقع انهيارات، سواء للهيكل أو لسلطتها. فأيهما يسبق وأيهما يكون بداية لسقوط الآخر؟ هذا متروك للوقت ليجيب عليه أو ينفيه.

عمر كلّاب

كاتب ومحلل سياسي أردني

شاركونا رأيكن.م