الجذور الاجتماعية للأزمة القضائية والسياسية في إسرائيل

لطالما تميزت الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل بالتناقضات والخلافات الداخلية في كل ما يتعلق بهويتها وأهدافها واستراتيجيتها لتحقيق ذلك. لكنها تميزت، أيضاً، بقدرتها على تجاوز الأزمات الداخلية وإيجاد مخارج متنوعة لرأب الصدع وانتهاج مسلك يمكّنها من استثمار طاقاتها الداخلية للدفع إلى الأمام، بناءً على ما يتم التوافق علية من قبل الأغلبية السياسية وبمباركة النخب الاقتصادية والأكاديمية والقضائية. في هذه الأيام تعصف بإسرائيل أزمة عميقة، بعد خمس دورات انتخابية خلال ثلاث سنوات ونصف السنة وبعد منح الأغلبية لحكومة يمينية، تعكس مدى التطرف والتقطب المستشريين في المجتمع الإسرائيلي. إن الأزمة الحالية في إسرائيل في كل ما يتعلق بما تم تسميته "الإصلاح القضائي"، والذي يشكل جزءًا من تغييرات ستطال كل مركبات العلاقة بين السلطة القضائية من جهة والسلطة التشريعية والتنفيذية من جهة أخرى، قد أخرجت عشرات الآلاف إلى الشوارع للاحتجاج ودفعت بالعديد من النخب السياسية والقضائية إلى التفوه بلغة ناقدة لم نسمعها من قبل. انتقاد رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت، للإصلاح المطروح هو خروج عن المعهود من قبل موظفي دولة مقابل الطبقة السياسية، ما يدل على أن الأزمة لا يمكن اعتبارها ازمة شخصية عابرة أو منافسة مؤسساتية بسيطة. خطة الإصلاح القضائي تثير ضجة عارمة لأنها تعني إحداث تغيير جذري في النظام الدستوري في إسرائيل من شأنها، إن تمت، أن تمنح السلطة التنفيذية سلطة شبه- مطلقة، وبالأخص رئيسها. أي، سلطة كاملة على كل عمليات اتخاذ القرار ما دام يحظى بأغلبية برلمانية وبدون رقابة من أية سلطة أخرى في الدولة. 

إلا أن لهذه الأزمة جوانب ومسببات لا بد من التطرق إليها من أجل فهم حدتها وعمقها وإذا ما كانت النخبة السياسية والقضائية قادرة على تجاوزها. بخلاف أزمات سابقة، الأزمة الحالية معقدة أكثر لأن لها جذورًا اجتماعية عميقة تطال عمق تركيبة المجتمع اليهودي وبالتالي، فهي ليست مجرد نزاع بين سلطات الدولة المختلفة على نفوذ وتأثير. لهذه الأزمة هوية إثنية داخل المجتمع اليهودي، حيث أن أغلبية من يدعم الإصلاح القضائي يأتي من أحزاب تحظى بدعم فئات اجتماعية شرقية الأصل بأغلبيتها، تشعر أنها هُمشت من قبل النخب المهيمنة وهذه الفئات تتآلف مع قوى عقائدية متطرفة قوميًا، على رأسها القوميون-المتدينون الداعمون للاستيطان والحريديم الشرقيون الداعمون لحزب شاس. لهذه الفئات الاجتماعية ضغينة تاريخية تجاه سلك القضاء، الذي له – في اعتقادهم - هوية إثنية اشكنازية ليبرالية وقراراته، بما في ذلك لوائح الاتهام ضد بنيامين نتنياهو، رئيس حزب الليكود، وحجب إمكانية تعيين آرييه درعي، رئيس حزب شاس، وزيرًا في الحكومة. هذه القرارات، بحسب هذه الفئات الاجتماعية، تعبّر عن مواقف سياسية أكثر من كونها قرارات قضائية مبنية على قواعد دستورية عامة. هذا الادعاء يطال قرارات الجهاز القضائي والمعسكر الداعم له في كل ما يتعلق بالتوازن بين المركّب اليهودي والمركّب الديموقراطي وما يترتب عن ذلك في السياسات الاستيطانية في الأراضي المحتلة وفي مكانة المؤسسات الدينية في تحديد طبيعة الحيز العام والحقوق والحريات الشخصية.  

من الصعب الدخول في كل ملابسات هذه الأزمة. إلا أنه من نافل القول إنه، وبسبب جذورها الاجتماعية، يمكن اعتبارها سابقة في حدتها ومن شأنها أن تأتي بإسرائيل إلى نظام دستوري جديد، من جهة، وتصدع سياسي واجتماعي عميق من شأنه الانزلاق إلى عصيان مدني، من جهة أخرى. لهذا لا بد من طرح التساؤل حول الشبة أو الاختلاف بين هذه الأزمة وازمات سبقتها في تاريخ الحركة الصهيونية أو الدولة الإسرائيلية وهل هي أزمة عابرة ستتمكن النخب السياسية من تجاوزها، بشكل أو بآخر، أم أنها أزمة تحتم تغييرات جذرية تطال الهوية الدستورية للدولة وبالتالي لا تأتي بنظام سياسي جديد فحسب، وإنما تأتي بواقع تتراجع فيه قدرة القطاعات المجتمعية الليبرالية الأشكنازية على التحكم بأنماط حياتها، ما من شأنه دفعها إلى المواجهة أو العزوف عن ذلك وتفضيل الهجرة. 

من أجل التعامل مع هذه الأزمة بشكل متسق، من المستحسن وضعها في سياق أوسع يساعد على فهم عمقها وملابساتها. لذلك، من المجدي إعادة النظر في مصطلح قدمه في العام 1724 الفيلسوف الألماني كريستيان وولف وهو مصطلح التيليولوجيا. وقد عنى به وجهة أو مقصد التطور التاريخي، والذي حوّله فيلسوف التاريخ فريدريش هيچيل إلى محور أساسي في فلسفته، حيث كان الحديث عن أن هنالك أشخاصًا في التاريخ يعملون من أجل تحقيق أو كشف منطق مبطن في أعمال أو أحداث ووقائع تاريخية. وقد يتجلى هذا المنطق من خلال منعرجات تاريخية ترتقي بالتطور التاريخي إلى مراحل أسمى. هذا الاصطلاح بأن للتاريخ وجهة يستبطن العديد من الافتراضات ويتميّز بالعديد من الأبعاد، من الصعب التطرق إليها هنا. ولكن لا بد من التوضيح بأن الافتراض الأساسي هو أن للتاريخ منطقًا روحيًا وعقلانيًا وهو يتقدم من خلال التناقضات والمنافسات بين قوى تاريخية متباينة. إلا أننا نعي، كما أوضح الفيلسوف تيودور أدورنو، بأن التقدم التاريخي ليس إيجابيًا بالحتم وبأن هنالك منعرجات وتراجعات في التطوّر التاريخي، كالمد والجزر والكر والفر، ولكنها لا تطرأ نتيجة لمنطق سابق لحدوثها أو تخدم فكرة عقلانيةً مبطنة فيها. هذا لا يصعّب التكهنات المسبقة للتاريخ فحسب، وإنما يشكك بفرضية ايجابية التاريخ الجدلية. إن جدلية التاريخ من الممكن أن تؤدي إلى السقوط في هوة لا قاع لها وإلى أنه لا يمكن حصر التاريخ في منطق وسطي أرسطوطالي يحوّل التوازن إلى حتمية في التاريخ، كما افترض هيچيل. لقد زعم أدورنو بأن تناقضات التاريخ يمكن أن تكون منافية للتوازن والعقلانية وأن تكون سلبية، كما حدث في دول أخرى في العالم وعلى رأسها تلك التي  كانت أكثر الدول تحضرًا في أوروبا، وهي ألمانيا في بدايات القرن العشرين. بالرغم من انتقاده، إلا أن أدورنو لم يعترض على وجود وكلاء تاريخيين من شأنهم أن يلعبوا دورًا مهمًا في تعزيز الجدلية التاريخية إلى درجة نقض التوازنات وبالتالي السقوط في هاوية من الصعب الارتقاء والتقدم إلى موضع أفضل منها. 

هذا الفهم لجدلية التاريخ الآخذ بفقدان توازناته، بسبب تبدل الظروف التي نشأت فيها هذه التوازنات، يمنحنا إطارًا نظريًا مريحًا لإجراء قراءة متأنية لما يحدث في إسرائيل اليوم، من شأنها الاستفادة من هذه الرؤية الفلسفية للتاريخ. إن التناقضات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي وصلت إلى مرحلة جديدة تنعكس بشكل جزئي في المقترحات التي يتم طرحها لتغيير النظام القضائي بحيث يتم اخضاعه بصورة كاملة إلى إرادة السلطة التنفيذية. هذه الاقتراحات هي جزء من مسار تاريخي عميق، وبالتالي لا تقتصر على كونها مدفوعة من قبل رئيس وزراء متهم بالفساد والإخلال بالأمانة العامة. نحن نتحدث في هذه الحالة عن انقلاب مجتمعي ونخبوي يحاول التأسيس لنظام يخدم مصالحه ورؤيته العقائدية في بنية مؤسساتية لا يمكن لأية قوة قضائية الانقلاب عليها في المستقبل. لهذا، ما يحدث في إسرائيل ليس إصلاحًا قضائيًا اعتياديًا وإنما انقلاب سلطوي عميق تقوده فئات اجتماعية متطرفة تريد تحقيق نفوذ يعكس مكانتها ورؤيتها ومصالحها. ولهذا، إذا ما نجحت، فسيكون هذا انزياحًا جديًا عن نوعية التناقضات التي عهدتها الحركة الصهيونية أو دولة إسرائيل في السابق. 

العامل الأول الذي من شأنه تغيير مسار التوازنات المألوفة في تاريخ الدولة هو التغيرات الاجتماعية التي تطرأ في المجتمع الإسرائيلي، وعلى رأسها تصاعد قوة الفئات المجتمعية المحافظة دينيًا وقوميًا وفي مقدمتها اليهود الشرقيون الذين يدعمون حزب الليكود وحزب شاس وعوتسما يهوديت والتقارب الجاري بينهم وبين قوى قومية متطرفة من أصول أشكنازية، على رأسها حزب الصهيونية الدينية، كما انعكس ذلك في الانتخابات الأخيرة في نوفمبر 2022. أهمية هذه القوى الاجتماعية تنبع من كون جزء كبير منها يشعر بالهامشية، التي يتم تعزيزها واستغلالها من قبل نخب سياسية لمواجهة فئات قومية ليبرالية أشكنازية في أساسها تبوأت، على مدار عقود، المناصب الأساسية في مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الأمنية والسياسية والاقتصادية والقضائية. النفوذ المهيمن للنخب القومية الليبرالية كان بناء على توافقات نخبوية يتم من خلالها تنفيذ سياسات قومية بغطاء ليبرالي وبآليات إجرائية أغلباوية، كما هو متبع في الأنظمة الديموقراطية. إن الإجراءات المؤسساتية اتبعت آليات كان قد تم التوافق عليها ومكّنت من التنافس بين نخب مختلفة، وسطية أو يمينية، وتسخير فئات مجتمعية مختلفة على مدار عقود. وقد استطاعت النخب المتنفذة تكريس قوى اجتماعية لصالحها، دون الحاجة على المس بآليات النظام المؤسساتي، لكي تستطيع تنفيذ مآربها. وقد توافقت هذه النخب على رؤية قومية لها دعائم في القطاعات المجتمعية المختلفة، وعلى رأسها الاقتصادية والعسكرية.

إن التحولات الجارية في المجتمع، بما في ذلك تصاعد وزن قوى سياسية ذات جذور إثنية شرقية، تلعب لصالح بعض القيادات السياسية في مواجهة المنظومة المؤسساتية، وعلى رأسها القضاء، لكي تحظى بالقدرة على تنفيذ وتحقيق إرادتها السياسية دون محاسبة. في هذا السياق، تم تجنيد الشعور الناقم لدى قطاعات واسعة من اليمين العقائدي، على جميع تشكيلاته، ضد النظام المؤسساتي القائم. إرادة القوة عند بعض القيادات في أحزاب اليمين المتطرفة غير متطابقة بالضرورة، ولكن بسبب عداوتها للمنظومة القضائية التي اتهمت بكونها ميالة إلى النخب الليبرالية التي ما زالت تتبوأ، بحسب ذلك، مناصب مركزية في القطاع العام تمنحها القدرة على الحد من قوة وقدرة القوى السياسية اليمينية على تنفيذ إرادتها وتطبيق رؤيتها السياسية، مستخدمةً المبادئ الدستورية تارةً والصالح العام والأمن القومي والمصالح الدولية لإسرائيل تارةً أخرى. وقد أدى الخلاف الاجتماعي على نشوء وحدة حال سياسية تهدف إلى تقويض هيمنة النخب الليبرالية، من خلال نسف قاعدتها المؤسساتية. لهذا، تتهم الأحزاب اليمينية الممثلة للقطاعات المجتمعية المحافظة، وعلى رأسها الشرقيون، مؤسسات القضاء بالوقوف في وجه إرادة الجمهور الديموقراطية التي انعكست في الانتخابات وفي الرأي العام على مدى سنوات. هذا الادعاء اشتد قوة في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد عدة دورات انتخابية حجبت فيها نخب ليبرالية الثقة عن قائد المعسكر اليميني، بعد أن تم تقديم لوائح اتهام ضده. يرى معسكر اليمين في ذلك محاولة للتغلب على إرادته الديموقراطية واستعمال لغة القانون من أجل إسقاطه قضائياً. يعزز هذا الادعاء المواجهة التاريخية بين جهاز القضاء ورئيس حزب شاس، آريه درعي، الذي يحظى بثقة عمياء عند قطاعات واسعة من الشرقيين الحريديم، الذين يتهمون السلطة القضائية بمحاولة تصفية قائدهم لكونه شرقي الأصل. قرار المحكمة العليا الأخير منع درعي من أن يكون وزيراً في حكومة بنيامين نتنياهو السادسة يعتبر مواجهة، ليست شخصية فحسب وإنما طائفية وأيديولوجية، تمس بالإرادة الديموقراطية للأغلبية التي انتخبت الأحزاب اليمينية ومنحتها الدعم لتشكيل حكومة ذات رؤية مختلفة عن تلك المتنفذة في المؤسسات القضائية. تعتبر القيادات اليمينية ذات الأصول الشرقية بأن المؤسسة القضائية تخدم رؤية النخب الأشكنازية ومصالحها السياسية، ما يؤكد من طرفها الحاجة إلى إجراء تغييرات جذرية في موازين القوة المؤسساتية والدستورية من أجل تنفيذ إرادة الأغلبية المنتخبة، التي تعبر - بحسبهم - عن أسمى مبدأ في الديموقراطية. 

يأتي بنا هذا التحليل الاجتماعي إلى عامل مركزي ثانٍ لا بد من التطرق إليه من أجل فهم الأزمة الحالية، وهو العقائدي. كما أسلفنا، هنالك تعددية فكرية واجتماعية وعقائدية في المجتمع اليهودي في إسرائيل. وبالرغم من ذلك، لطالما كان هنالك توافق على قواعد اللعبة والأهداف الاستراتيجية الأساسية في جميع المجالات تقريباً، مع بعض الهوامش للتنوع والاختلاف. بدأ هذا التوافق يتصدع في كل ما يتعلق بهوية الدولة اليهودية، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بإخضاع الدولة للعقيدة الدينية تجاه الأراضي المحتلة 1967 وتجاه مكانة المجتمع المتدين في أولويات تقسيم موارد الدولة، حيث أن الادعاء السائد بأن هنالك إجحافًا تاريخيًا في حق المجتمع الحريدي، الذي - وبالرغم من قدرته السياسية - لا يحظى بما يحق له من ميزانيات الدولة. التصدع المجتمعي والخلافات على مكانة وحقوق مجموعات سكانية مختلفة أدت إلى تمرد سياسي عند مجموعات محافظة من جذور شرقية، حريدية ودينية قومية، قريبة فيما بينها فيما يتعلق بوجهتها الدينية المحافظة ورؤيتها القومجية الراديكالية وعدم التزامها بقواعد اللعبة الدولية التي فرضت - باعتقادهم - على إسرائيل التزامات لا تتماشى مع مصالحها. تظهر كل الاستطلاعات والأبحاث في إسرائيل أن تصاعد قوة هذه القوى عزز من هيمنة الرؤية القومية الدينية في المجتمع اليهودي وخلق وضعًا جديدًا فيه صدام ليس على المستوى الاجرائي المؤسساتي فحسب، وإنما على المستوى العقائدي أيضاً. القوى الاجتماعية الصاعدة لا تريد تقييدات مبدئية على الإجراء الديموقراطي بناءً على الادعاء بأن النخب التي هيمنت على إسرائيل في السابق، من خلال تحكمها بمؤسسات الدولة وبتثبيت المعادلة السياسية التي تخدم مصالحها ورؤيتها للدولة، لم تقيد نفسها وإنما استغلت مؤسسات الدولة لتأكيد استمرار هيمنتها وأن الاعتراض على التغييرات القانونية المطروحة في خطة الإصلاح ما هي إلا جزء من الاعتراض على حق الأغلبية اليمينية في تنفيذ سياساتها كما ترتئيها. 

حتى الآن، تبقى القوى الاجتماعية المحافظة ملتزمة باللعبة الديموقراطية في جانبها الاجرائي، وذلك لخدمة تحقيق مصالحها ورؤيتها، وفي مقدمة ذلك تدعيم القيم الدينية المنافية لليبرالية وعلى رأسها الحقوق والحريات الفردية والتعددية. ادعاؤها الأساسي هو أن حكم الأغلبية، وهو المعنى الأساسي للديموقراطية، يفسح المجال لترجمة إرادة الأغلبية في سياسات الدولة في جميع المجالات، بما في ذلك التقاسم الوظائفي بين مؤسسات الدولة، وأي اعتراض على ذلك يعني عدم الالتزام بقواعد الديموقراطية. هكذا قلبت هذه القوى السحر على الساحر. أي أنها سخّرت المعادلة الديموقراطية المبنية على حكم الأغلبية والتي تم من خلالها تنفيذ سياسات مست بالحقوق الأساسية للمجتمع الفلسطيني وأخضعته لحكم أغلبية يهودية مستبدة تؤسس لامتيازات للمجتمع اليهودي، بشكل تفاضلي، على حساب المجتمع الفلسطيني، وسخرته لصالحها في توازنات القوى الداخلية. أي أن القوى الاجتماعية المحافظة والمتدينة تلعب ورقة الأغلبية تجاه كل من يعارضها، وعلى رأس ذلك القطاعات الليبرالية منها، وتدّعي بأن الديموقراطية تعني اخضاع كل مؤسسات الدولة، بما في ذلك المحكمة العليا، لمبدأ ولاية الأغلبية. هذا يعني أن هناك تناقضًا أساسيًا وجوهريًا بين العقيدة السياسية الإيديولوجية لليمين القومجي وبين المؤسسات الدستورية التي تجري الآن محاولة إخضاعها للإرادة الشعبية ذات الصفات الشعبوية. ويدّعي اليمين القومجي بأنه إذا لم تقبل المؤسسات القضائية خضوعها لإرادة الأغلبية، فسيتم استبدالها أو إزاحتها أو تفريغها من مغزاها وتجاوزها بواسطة سحب الشرعية عنها وتغيير تركيبتها ونقل بعض صلاحياتها إلى مؤسسات بديلة تقوم بالوظيفة المطلوبة، بغطاء شرعي بديل. 

يحمل التناقض الحالي في طياته صراعًا اجتماعيًا – عقائديًا، هو صراع وجودي، بين كل من الطرفين وله إسقاطات على مستقبل الدولة، خصوصاً أننا نتحدث عن انشقاقات مجتمعية تعزز بعضها البعض وتنعكس في المؤسسات الرسمية للدولة. هذا يعني أن الأزمة الحالية في إسرائيل ليست أزمة قضائية ونخبوية فحسب، بل هي أزمة اجتماعية وعقائدية ومؤسساتية حول كل ماهية الدولة اليهودية وكيفية تلاؤم هذه الهوية مع الإبقاء على إجراءاتها الديموقراطية التي لطالما اسعفت النخب الحاكمة في تحقيق سياساتها من خلال فصل واضح بين قرارات إجرائية أغلباوية وأهداف تمييزية منافية للديموقراطية في جوهرها. محاولات الجماعة التي حظيت بالأغلبية البرلمانية في انتخابات نوفمبر 2022 تغيير قواعد اللعبة وخلق تراتب بين مؤسسات الدولة تفسح المجال للسلطة التنفيذية والتشريعية لإخضاع السلطة القضائية لإرادتها هي واستغلال النمط ذاته من الفكر السياسي لتثبيت نفوذ القطاعات الاجتماعية المحافظة في أروقة السلطة والحد من أية إمكانية مستقبلية تعود فيها السلطة إلى أيدي النخب الاشكنازية. هذا يعني أننا نتحدث عن محاولات انقلاب، ليس على السلطة القضائية فحسب وإنما على نظام الهيمنة الأشكنازية والدفع بسياسات من شأنها أن تعزز السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية من جهة، وتعزيز الطابع الديني للحيّز العام الإسرائيلي من جهة أخرى. بناء على ذلك، يضع اليمين المهيمن شروطًا للفئات الليبرالية في المجتمع اليهودي، إما الانضمام إليه وإما التخلي عن نفوذها في مؤسسات الدولة.       

للأغلبية البرلمانية اليمينية المحافظة ميزات فاشية شعبوية تنعكس في شخصية بنيامين نتنياهو الذي ينجح في تأجيج نار العنصرية اليهودية الداخلية بين الأشكنار والشرقيين من أجل تحقيق إرادته السياسية والفرار من محاكمته على الفساد وخيانة الأمانة. سخرية القدر تنعكس في الدور التاريخي الذي تلعبه شخصية نتنياهو في كشف تناقضات المعادلات القيمية وازدواجية المعايير في المؤسسات الإسرائيلية والتي، وإن تحدثت بلغة الحقوق، فهي تقتصرها على ذاتها أو حسب شروطها، وهو ما أثار ضغينة فئات مهمشة في المجتمع اليهودي ترى فرصة سانحة لاستغلال المؤسسات من أجل فرض إرادتها وتنفيذ رؤيتها ودعم مصالحها. 

يظهر الصراع الحالي كيف أن الإجراءات الديموقراطية التي سُخرّت على مدار عقود كغطاء لتحقيق مآرب هدفها تحقيق فوقية يهودية ذات صبغة أو غشاء ليبرالي، لكنه عنصري في جوهره، تُستغل الآن لتعزيز العنصرية والفوقية القومية داخل المجتمع اليهودي بشكل عكسي. هذا التحول يظهر أن جدلية التاريخ، بالرغم من عدم حتمية معقوليتها وتوجهها العقلاني، تفرز حقائق نجحت في أن تخفي نفسها لوقت طويل، مبينةً الوجه الحقيقي لهويات اعتنقتها مجموعات مبنية على عنصرية فوقية قامعة لكل من يقف في وجهها، حتى وإن كان بالأمس حليفًا لها. هذا ما نشهده الآن في إسرائيل حيث أن الغشاء الديموقراطي الذي كرسته قطاعات مجتمعية ذات أصول أشكنازية وصاغته في مؤسسات، وعلى رأسها المحكمة العليا، تؤكد تراتبية هوياتية تستهدف الفلسطيني وتخضع الشرقي لرؤيتها الحضارية والقومية. هذا الغشاء آخذ في الزوال لأن اليمين القومجي المدعوم من فئات في أغلبيتها شرقية ليس بحاجة له، بل على العكس، فهو يعتبره عائقًا أمام تحقيق مآربه العقائدية، القومية والدينية، ويعمل جاهدًا مستغلاً الإجراء الأغلباوي لفرض إرادته على كل قواعد اللعبة، بما في ذلك تجاه النخب المتنفذة، كاشفاً عن أنيابه الحقيقية التي تكشف الاغتراب الذاتي لهوية قومية-دينية ليبرالية متحضرة كنموذج ممكن، وذلك لكونها تحاول فرض نفسها على واقع مبني على نفي الآخر الذي لا يقبل فوقيتها، كما تفضح عورة إمكانية التمازج بين جوهر قومي-يهودي للدولة وبين نظام ديموقراطي حقيقي. 

ستكشف الأيام القادمة كيف سيحسم الصراع. وبالرغم من إمكانية تدخّل فئات وقطاعات مجتمعية مختلفة، وعلى رأسها القيادات الأمنية والاقتصادية، لرأب الصدع، إلا أن الواقع الإسرائيلي لن يعود إلى سابق عهده. إن الشكوك المتبادلة بين المعسكرات آخذة في الاتساع. بغض النظر عمّا ستؤول إليه الأمور، من المؤكد أن لهذا الصراع تبعات مريبة على واقع المجتمع العربي، ما يطرح الحاجة إلى لتفكير عميقاً بالاستراتيجية الصحيحة لقيادة الأحزاب العربية وهل هي تقوم بما هو مطلوب من أجل التعامل مع السيناريوهات المختلفة المحتملة.          


تصوير: مكتب الإعلام الحكومي.

(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

بروفيسور أمل جمّال

باحث في مجال النظرية السياسية والاتصالاتية المقارنة والفكر السياسي وعمليات الدمقرطة والمجتمع المدني، ومدير فرع الاتصال السياسي في قسم العلوم السياسية في جامعة تل أبيب

شاركونا رأيكن.م