الاحتجاجات والحشد تحت شعار "لنحمي الديمقراطية"
خلال خمس سنوات، أعيدت الانتخابات في اسرائيل خمس مرات - وهذا عدد قياسي نسبيًا - وأدت في نهاية المطاف إلى صعود اليمين بالكامل إلى الحكم، القضاء على تيار اليسار، تفكيك القائمة المشتركة بشكل نهائي، بناء حكومة مكوّنة من أحزاب يمينية فقط، والتالي سيطرة اليمين بشكل تام على جميع المناصب الحكومية والمؤسساتية وفرض أجندته المتطرفة على مواطني الدولة وعلى حياة الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزّة، أجندة مبنية على الفوقية اليهودية.
هذا النهج السياسي يعمل بحسب سياسة واضحة وعلنية تقسّم المجتمع في إسرائيل إلى فئات، فيها المبنى الهرمي يضع الصهيونية الدينية في القمة ويعمل على تعزيز الفكر الاستيطاني المتدين ويشن، في الوقت ذاته، هجومًا على كل فئة لا تؤمن بفكرهم وأيديولوجياتهم ولا تؤيدهما.
باشرت حكومة اليمين بالكامل على الفور في تنفيذ مشروعها لتقليص صلاحيات المحكمة العليا، وذلك من خلال الإعلان عن عدة تغييرات، أبرزها ما يسمى ب"فقرة التغلب" التي تستطيع الكنيست بموجبها إلغاء أي قرار للمحكمة العليا حول قانون تم سنّه، بغالبية 61 عضو كنيست فقط. ما يعني أن دور المحكمة العليا كسلطة قضائية محايدة ومدافعة عن حقوق المواطن، سينتهي رسميًا وستصبح المحاكم في إسرائيل أشبه بالمحاكم في الدول الدكتاتورية. وبحسب ما علّمنا التاريخ، هذه أولى الخطوات في تحول الدول إلى الفاشية الرسمية.
مع اعلان وزير القضاء يريف ليفين بدء العمل على خطته لتقويص الجهاز القضائي، بدأت الاحتجاجات الشعبية في المدن المركزية في البلاد، وأبرزها في مدينة تل ابيب، والتي شارك فيها عشرات آلاف الأشخاص، حتى وصلت المشاركة إلى مئة ألف متظاهر ومتظاهرة منتصف الشهر الماضي واستطاعت أن تمتد إلى مدن أخرى تحت شعار "نحافظ على الديموقراطية ونحميها" و"نمنع الانقلاب على النظام".
أقيمت المظاهرة الأولى في تل ابيب تحت شعار "مسيرة غضب" كرد شعبي على قيام الحكومة المتطرفة بإعلان الحرب على الجمهور وعلى فئات كاملة في المجتمع الإسرائيلي، والتي تراهم كمواطنين درجة "ب" وتعتبرهم أعداء الاجندة اليمينية العنصرية - الفلسطينيين العرب مواطني إسرائيل، الفلسطينيين في الضفة وغزة، النساء، مجتمع الميم وسكان المناطق الطرفية وكل من لا يتماشى مع فكرها الذي يعزز الفوقية اليهودية ويعمل لمصلحة فئة واحدة فقط: الصهيونية الدينية. هذه المظاهرة استطاعت جلب كل الفئات المتضررة إلى منصّة واحدة في ساحة "هبيما" في تل أبيب، لإسماع صوت مشترك ضد الحكومة والمطالبة بالمساواة، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، إنهاء الاحتلال والسلام للجميع. وكما هو حال المجتمع في إسرائيل، سرعان ما تصاعدت أصوات غير راضية عن المظاهرة وعن شعاراتها، وعن الشخصيات التي اعتلت المنصة لتتحدث عن الضرر الذي ستلحقه الحكومة بنا. هذه الأصوات غير الراضية أرادت رفع شعار واحد فقط: ردع محاولات الحكومة للمس بالمحكمة العليا والمحافظة على "ديمقراطية" اسرائيل، مما أدى إلى انقسام بين المنظمات اليسارية المختلفة المشاركة وانشقاق اليسار الصهيوني للتظاهر تحت شعار "لا للانقلاب على النظام".
الحشد والتحريك تحت هذا الشعار استطاع إخراج عشرات الآلاف من البيوت، حيث كان واضحًا أن الأغلبية الساحقة التي نزلت إلى الشوارع هي من المواطنين اليهود من الطبقة الوسطى والعليا والتي تنتمي إلى تيار المركز- اليسار الصهيوني، الطبقة ذاتها التي تنعم بالديمقراطية فعلًا. أما باقي فئات المجتمع المهمشة (العربي الفلسطيني، الشرقي، سكان الضواحي وغيرها) التي لا ترى هذه التهديدات كأمر جديد عليها، لم تر أن هذه المظاهرات والمطالب تعنيها. ولذلك، لم تشارك.
المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل لم يحظوا بالديموقراطية التي تدعيها هذه الدولة منذ قيامها، بل يعاني هذا المجتمع بشكل مستمر من تفشي العنف والجريمة، السلاح غير القانوني، شح الميزانيات، التمييز وعدم المساواة المطلقين، ولذلك لا يرى أن هذه الشعارات تعنيه. أما باقي الفئات اليهودية المهمشة في المجتمع الإسرائيلي فهي تعاني من غلاء المعيشة، النقص في الخدمات الاجتماعية، أزمة السكن وغيرها من المشاكل الحياتية الأساسية التي فشلت حكومات اليمين السابقة في معالجتها وتراكمت لتصبح الأزمات الحقيقية لهذه الفئات أزمات اجتماعية واقتصادية.
جزء كبير من اليسار في إسرائيل أصبح يميل إلى ما يسمى اليوم بـ"المركز"، وهو في غالبيته ذو أيديولوجية صهيونية ليبرالية، أشخاص يتمتعون بمكانة اقتصادية واجتماعية عالية. وهو التيار نفسه الذي يدعو في الأسابيع الأخيرة للحشد والتحريك الميداني محاولًا "توحيد" المجتمع الإسرائيلي للنضال ضد "فقرة التغلب"، مع الحرص على عدم طرح شعارات أخرى: سياسية، اجتماعية واقتصادية. ولذلك، يرفض دعوة شخصيات عربية إلى المنصة، أو قادة من التيار اليساري غير الصهيوني، خوفًا من رفع شعارات المطالبة بإنهاء الاحتلال، رفع الحد الأدنى من الأجور، تحسين الخدمات العامة ونظام الصحة والمطالبة بالمساواة للجميع.
مقابل هذا التيار، هناك قوى أخرى تعمل على خلق يسار شعبي، يسار عربي يهودي يضم شرائح مختلفة من المجتمع في إسرائيل ويؤمن بأن هذه اللحظة، وبالرغم من صعوبتها، بإمكانها رسم درب جديد لتيار يساري حقيقي. يسار لا يخاف من النضال المشترك، بل يؤمن به. يسار مكوّن من المواطنين الذين يعانون من سياسات حكومات إسرائيل التي أصبحت واضحة وعلنية مع الحكومة الحالية التي أعلنت أنها ستعمل على انتزاع المزيد من الحقوق، المس بالأقليات، بحقوق النساء ومجتمع الميم، تعميق التمييز العنصري ضد الفلسطينيين مواطني إسرائيل، تقليص الميزانيات، التصعيد ضد الضفة وغزة وإراقة المزيد من الدماء من الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي. هذه الحكومة تعمل ضد الأغلبية ولصالح الأقلية.
المجتمع الفلسطيني في إسرائيل هو أول المتضررين من سياسات هذه الحكومة. لذلك، وبالرغم من عدم الإيمان بمؤسسات هذه الدولة، علينا ألا نستسلم ونجلس جانبًا، بل أن نخرج نحن أيضًا إلى الشوارع وأن نكون جزءًا فعالًا من هذه الاحتجاجات والمطالب. علينا ألا ننسى أننا موجودون وبقوة في جميع المؤسسات السياسية، التعليمية والجماهيرية، رغم التفرقة والقمع، وأن نعمل على بناء مقاومة عربية فلسطينية كجزء من نضال مشترك، لكي نؤثر على حيّز المظاهرات وشعاراتها؛ ضد تهويد النقب، تضد عميق الاستيطان والأبارتهايد، ضد تقليص ميزانيات مجالسنا المحلية والعديد من الإشكاليات التي نعاني وسنعاني منها في المستقبل.
الصورة: من مظاهرة رهط للمصور وليد العبرة.