بين نضال نيلسون مانديلا ومسيرة ستيف بيكو
علّمتني أحداث التاريخ أنه في كل مرة تسعى لدراسة حالة سياسية معينة عليك الاهتمام بدراسة ومعرفة الدوافع الاقتصادية لتلك الحالة وذاك الحدث وإسقاطاته على جميع الأصعدة. فغالبًا ما يكون الدافع الاقتصادي هو العامل الرئيسي في أي حدث سياسي. وكما جاء في العبارة الشهيرة التي استُخدمت خلال الحملة الانتخابية التي خاضها بيل كلينتون للرئاسة الأمريكية ضد جورج بوش الأب في العام 1992: Read my lips, it's the economy stupid – إنه الاقتصاد، يا غبي!
وفي الحالة الجنوب الافريقية التي نحن بصددها كان من المهم معرفة الدوافع الاقتصادية التي أدت إلى السيطرة على جنوب افريقيا وأهمية المنطقة استراتيجيًا واقتصاديًا من خلال منطقة رأس الرّجاء الصالح، وكذلك تأثير حركة التنوير في فرنسا على هولندا ومن ثم على قبائل الزولو والهوسا في جنوب افريقيا.
"أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزول"
نعود من تجربة ودراسة فريدة لبحث الحالة الجنوب أفريقية منذ سنوات استعمارها الأولى من قبل الهولنديين مطلع العام 1652م من خلال شركة الهند الشرقية الهولندية وذلك لأهمية منطقة رأس الرّجاء الصالح وموقعها الاستراتيجي وتأثيرها على حركة النقل والتجارة والملاحة ما بين الهند في المشرق وبريطانيا وأوروبا في الغرب، مما زاد شدّة التنافس البريطاني-الفرنسي في السيطرة على حركة الملاحة، والذي بسببه عملت فرنسا على شق قناة السويس بقيادة نابليون بونابرت والتي سالت فيها دماء عشرات آلاف المصريين فيها، قبل الماء.
بعد احتلال الهولنديين لجنوب أفريقيا جرت عملية تحول ديموغرافي لتصبح لاحقًا مقسمة لثلاثة فئات وبشرات: السوداء، البيضاء والملوّنة، لتأخذ اشكالًا وابعادًا مختلفة لتصل ذروتها في إقرار نظام الفصل العنصري الابارتهايد في العام 1948.
بالتوازي مع كل ما ذكر أعلاه وجدتني أغوص في بحث شخصية لم أسمع بها من قبل، هو ستيف بيكو، الذي قاد حركة "الوعي الاسود" مطلع ستينات القرن الماضي، والتي قادت نضال السود في جنوب أفريقيا وشكلّت الوعي السياسي والثقافي والتّشبع بالهوية بهدف التحرر النفسي والعقلي في سبيل الخلاص والتحرر الجسدي، من خلال الإيمان بالذات والاعتداد بالنفس.
"وَمَن جَهِلَت نَفسُهُ قَدرَهُ
رَأى غَيرُهُ مِنهُ مالا يَرى"
أيقن ستيف بيكو ورفاقه في حركة الوعي الأسود أن شعبه يعاني ما يعانيه من حكم فصل عنصري واضطهاد وتمييز نابع بالأساس من كونهم ذوي بشرة سمراء، وعليه فإن الواجب يحتّم عليهم إدارة نضالهم كما يعرّفه العدو ولسببه يحاربون. ففي حين كان حزب المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي ANC يعمل على بناء شراكات واسعة من مختلف سكان جنوب أفريقيا ضمّت البيض والديمقراطيين والشيوعيين والليبراليين وكان البيض في كثير من الأحيان داخل حزب المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي من يقود النضال باسم السّود حتى، جاء ستيف بيكو وترك الشّعارات والمصطلحات الفضفاضة جانبًا، من ديمقراطية وشراكة وليبرالية عدالة ومساواة ونضال مشترك وأممية وغيرها، وقاد نضال السّود كما يجب أن يكون وعلى أساس أنهم سود وعلى ذلك يحاربون ويضطهَدون ولهذا السبب عليهم أن يناضلوا. هذه هي الحقيقة الثابتة الراسخة وعلى هذا الأساس يكون النّضال تحت شعار: Black is beautiful
قاد ستيف بيكو معركة تحرر العقل والانتماء للذات والاعتداد والتّشبع بالهوية، كما في السياسة وأيضًا في الثقافة، إذ عملت حركة الوعي الأسود في النوادي، المستشفيات، المدارس والشوارع حيث كان التحرر السياسي يمر من خلال التعبئة والتحرر الثقافي. ففي حين كان مانديلا قابعًا في زنزانته في جزيرة روبن، كان ستيف بيكو يضئ بمشعله درب الوعي والانتماء للذات والهوية. وهذا ما أكده مانديلا حينما أشار إلى أن حكام الابارتهايد قتلوا ستيف بيكو لاحقًا، منتصف السبعينات، في سبيل إطالة عمر نظام الفصل العنصري.
ستيف بيكو قائد وسياسي قاد شعلة التحرر الثقافي بالتوازي مع معركة التحرر السياسي ويبدو أن هذه هي معركتنا نحن أيضا في ظل ما يجري اليوم من تمزق وفقدان الهوية والانتماء واستفحال العنف والجريمة وعزوف الناس، وخاصة الشباب منهم، عن المشاركة في الحياة السياسية والانخراط في الأحزاب. هذه التحدّيات تؤكد أن معركة الوعي والثقافة والمعرفة والتّشبع بالهوية واللغة هي الأهم، وذلك من خلال العمل بين الناس، المؤسسات، النوادي والبيوت من أجل تعزيز هويتنا الثقافية والقومية والدينية على أسس صحيحة، سليمة وراسخة.
إن معركة الثقافة والوعي هي الأخطر والأهم ولن يقدّم لنا العون أحدٌ ما لم نُعِن أنفسنا بأنفسنا، ونبني العقول والوعي اللازم للخلاص.
عز الدين أبو الطيف
ناشط اجتماعي من سكان مدينة رهط، حاصل على اللقب الاول في العلوم الطبية المخبرية من جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية