إسرائيل بين اليمين الليبرالي واليمين الفاشيّ

هناك ميل عام في الخطاب السياسيّ الراهن إلى اعتبار تشكيل الحكومة الحالية في إسرائيل علامة فارقة في تاريخ إسرائيل والتوازنات داخل المجتمع الإسرائيلي. وأراهن أن هذا الميل يصنعه الذين خسروا الانتخابات الأخيرة والإعلام العبري في غالبيّته ويتعاون معه عامة الناس، بمن فيهم جهات فلسطينية سياسيّة وإعلاميّة. وقد هالني، مؤخّرًا، ما قرأته من تحليل لأحد مراكز البحث الفلسطينية الذي بدا فيه بوضوح أنه يتبنّى خطاب النُخب الليبراليّة الإسرائيليّة وفرضياتها بالنسبة لما حصل ويستخدم وجهة نظرها في قراءة مشروع الحكومة الحالي الساعي إلى تغيير موازين القوى مقابل الجهاز القضائيّ. من هنا أهمّية أن نقرأ نتائج الانتخابات الأخيرة والائتلاف الذي نشأ عنها كجزء من تحوّلات ممتدّة في التجربة الإسرائيلية لا يجوز معها بدء الحساب من هذه الحكومة. وهو ما سأحاول تسليط الضوء عليه كي لا نذهب بعيدًا مع الخطاب الإسرائيلي الليبراليّ الذي يُريد أن يُقنع نفسه ويُقنعنا بأن المشكلة تبدأ وتنتهي في إضعاف الجهاز القضائيّ والمسّ باستقلاليّته، وأن الحلّ هو في تثبيت الوضع الدستوريّ الراهن وتثبيت مكانة المحكمة العليا بوصفها درّة تاج الدمقراطية الإسرائيليّة، أو بالعودة من نص "قانون القومية" إلى نصّ "وثيقة الاستقلال".

ليس هناك نقطة فاصلة واحدة في تاريخ إسرائيل كدولة ومجتمع وفكرة، بل هناك تراكم لــ "نقاط" كهذه أفضت إلى ما وصلنا إليه. وإذا شئنا أن نحدّد نقطة بداية هذه الحكومة لوجدناها في لحظة اغتيال رئيس الحكومة يتسحاق رابين في العام 1995. فقد جسّدت حادثة الاغتيال بشكل واضح اغتيال "الدمقراطية الإثنيّة" اليهوديّة بأيدي الإثنيّة اليهوديّة التي جنّ جنونها حيال إمكانيّة أن يكون الفلسطيني شريكًا مُعترفًا به في الحيّز المكانيّ، أي فلسطين التاريخيّة. فاغتيال رابين شكّل اغتيالًا لإمكانية أن يكون الفلسطينيّ هنا شريكًا، ولو غير رسميّ، في قرار الحرب والسلم. وشكّل في مستوى آخر، قتل عملية التفاوض ذاتها التي قامت على أساس اعتراف متبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير على أساس تقاسم الأرض، استنادًا إلى قرار التقسيم ومبدأ حقّ تقرير المصير المتبادل ضمن ما يُتّفق عليه في المفاوضات (وكان ميزان القوى يومها وفي الاتفاقيات - أوسلو وما أعقبها - يميل بشكل واضح لصالح الجانب الإسرائيلي). بمعنى أن الاغتيال وضع الخاتمة لثلاثة محاور شكّلت مجتمعة الخطاب السياسيّ الإسرائيلي في تلك الفترة. الأول ـ إسقاط الشرعية السياسيّة عن الفلسطينيين في إسرائيل، تحوّل في تشرين الأول من العام 2000 إلى "قنص مواطنتهم". الثاني ـ إسقاط مبدأ التفاوض وحلّ القضية الفلسطينيّة عبر مبدأ تقاسم الأرض، لصالح إدارتها وتصريفها بكُلفة زهيدة. الثالث ـ إسقاط الخيار الليبرالي للصهيونية (نظام قائم على فصل السلطات وتداول السلطة ومبدأ المواطنة لغير اليهود) لصالح إقامة "قلعة يهوديّة" تُخضع الحيّز وسكانه لإرادتها. 

لم يتمّ هذا الاغتيال متعدّد الغايات لذاته بل لتحقيق ما هو أبعد من ذلك بكثير. أبرزه الاستحواذ نهائيًّا على كامل فلسطين التاريخيّة وتصفية المسألة الفلسطينية، مؤقّتًا على الأقلّ، في إطار خيار إقليميّ استراتيجيّ تحت عنوان "سلام إبراهيم". وهو سلام اقتصادي استراتيجي تتحالف في إطاره إسرائيل مع دول إسلاميّة (لا عربيّة) وتُطبّع معها سياسيًا واقتصاديًّا، وتُعفى، مقابل ذلك، من تبعات مسؤوليّتها عن القضيّة الفلسطينية.  

علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن المعسكر المناهض لنتنياهو بغالبيته يُراهن هو، أيضًا، على "سلام إبراهيم" وقد هلّل له وانخرط في تثبيته. وكانت قوى فيه، قبل ذلك، شريكة فعّالة في النقطة المصمّمة الثانية لهذه الحكومة المتمثّلة في وضع "قانون القومية" وإقراراه نهائيًا في العام 2018. وكان الإقرار خاتمة سيرورة من سبع سنوات شاركت فيها النُخب اليهودية بمعظمها. وهو قانون يحصر حقّ تقرير المصير في فلسطين في الشعب اليهودي دون غيره ـ ويحوّل الفلسطينيين كافة إلى رعايا ويتمّ التحكّم بهم بأساليب متعدّدة. وقد ترافقت التشريعات والإجراءات السياسيّة على الأرض منذ اغتيال رابين مع خطاب سياسيّ يتلاءم مع الغايات ويؤشّر عليها، لا سيّما الدفع المحموم لإخراج الفلسطينيين في إسرائيل من السياسة أو من القرار السياسيّ، ولو في حدّه الأدنى، ومحاولة تقليص حضورهم السياسيّ وحصره في "المدنيّ" عبر دمغهم بالإرهاب مثلًا وإخراج قطاعات منهم خارج القانون. فالنُخب الإسرائيلية التي كانت تهتمّ بمشاركة فلسطينيي الداخل في الانتخابات التشريعيّة صارت مهتمة بقمع هذه المشاركة والحدّ منها أو تهميشها، حتى في حالة الحاجة إليها. 

وعليه، أقترح أن نفهم الحكومة اليمينية الحالية ومشروعها ضمن حركة السياسة الإسرائيلية التي دخلت مسارًا مغايرًا منذ اغتيال رابين مرورًا بعدة حروب على غزة وقمع الانتفاضة الثانية وتوسيع عمليات الاستيطان الإحلاليّ في كل المواقع. وهي حكومة ماضية في تحقيق الانتقال نهائيًا من الخيار الليبرالي (دولة دمقراطية ويهودية) إلى الخيار الاستعماريّ المكشوف. وفي هذا الإطار تأتي هجمتها المخطّطة على الجهاز القضائي، لأنه آخر معاقل الخيار الليبرالي وأهمّ مبرّرات شرعيّة "الدمقراطية الإثنية" في المحافل الدوليّة. وضمن هذا الإطار يُمكننا أن نفهم، أيضًا، معارضة الانتقاص من مكانة هذا المعقل. سنفهم المعارضة للانتقاص من مكانة المحكمة العليا هنا إذا عرفنا أنها كانت على مدار عقود الدرع الواقي لجنرالات الجيش الإسرائيلي ومسؤوليه من محاكمات قد يتعرّضون لها في محاكم دوليّة يتُهمون فيها بارتكاب جرائم حرب. أما الانتقال بإسرائيل إلى دولة استعمارية تقوم على أصولية قومية - دينية بدون حقوق إنسان فمن شأنه أن يعرّض صورة إسرائيل و "الأخلاقيّة اليهوديّة" للتخريب التام ويقوّض شرعيتها ويعرّضها إلى ردود فعل عقابيّة في المستوى الشعبي والقانوني والاقتصادي. وعليه، فالمعركة السياسيّة في إسرائيل الآن، وإن كان لها إسقاطات جدّية على الفلسطينيين، هي معركة بين يمين إسرائيلي ليبراليّ النزعة وبين يمين عنصريّ عنيف وفاشيّ. في مثل هذه الحالة على الفلسطينيّ أن يُبدع مشروعه السياسيّ وأن يبني إرادته السياسيّة كي يصير شعبًا، لا أن يراهن على هذه المعركة خاصة وأن طرفيْها يستثنيانه من "اللعبة" تمامًا. 


(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected])

مرزوق الحلبي

حقوقيّ ومستشار استراتيجي ومنسّق المجموعة الفلسطينية في الداخل للتفكير الاستراتيجي ومتخصّص السياسة في دول الشرق الأوسط

حمودي
لا اتفاقيات ابراهيم ولا ابن خالته
الأربعاء 1 آذار 2023
رأيك يهمنا