الثِقَّة هي الأساس
لا يختلف اثنان في أهميّة الثّقة في التّعامل والتّواصل بين الأفراد والمجموعات في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ممّا يؤسّس للعيش والتّفاعل المُنتظمين وزيادة في الإنتاج والإبداع. علاوة على ذلك قد نتفاجأ عندما نقول أنّ ضوابط ورموز معيّنة تتواجد كخيط ثقة حتّى بين الأعداء.
الثّقة تُولّد الجُرأة فالانفتاح والمشاركة فالتّواصل والتّفاعل الإيجابيّ الّذي يُفضي الى حراك ونتائج مرجوّة.
هذا التّسلسل المذكور يصّح وهو كفيل بالنّجاح ليس على المستوى الاجتماعيّ فحسب وإنّما في مضمار العمل والسّيرورة المهنيّة أيضا، أقول ذلك وفي جعبتي أكثر من خمسة عشر عاما في مجال إدارة الموارد البشريّة في سوق العمل.
وعندما نتحدّث عن واقع سوق العمل فإنّ التّمثيل العربيّ في قطاع الأعمال الإسرائيليّ هو ضئيل للغاية لا يتعدّى خمسة بالمائة من مُجمل العاملين في هذا القطاع، في حين أنّ نسبة المُديرين العرب لا تتجاوز الواحد بالمائة. هذه المُعطيات تُرخي بظلالها على الوضع الاقتصاديّ- الاجتماعيّ العربيّ في البلاد وتُساهم سلبا في ارتفاع نسبة الفقر بين ظهرانينا لتطال ما يُقارب خمسين بالمائة من عائلات المُجتمع العربيّ.
تحدّيات كُثُر تقف أمام طالب العمل والعامل العربيّ في هذه البلاد منها ما تكون تحديات ذاتيّة-داخليّة ومنها ما تكون بنيويّة- خارجيّة والّتي لطالما حالت دون الانخراط النّوعيّ والقبول لوظائف جيّدة ومرموقة.
بداية، عندما نتحّدث عن التّشغيل النّوعيّ الضّئيل للعرب في المرافق المُختلفة في البلاد، لا تغيب عنّا الأجواء السّياسيّة التّمييزيّة المشحونة في الدّولة كمُعيق- من جُملة مُعيقات- والّتي تحول دون الانخراط المرجوّ، ومع ذلك أودّ مُتعمّدا إدراج هذا المُعيق في أسفل لائحة المُعيقات وليس بصدارتها، كي لا نُعلّق عليه كلّ الأسباب وكي نُتيح لأنفسنا التّركيز على ذواتنا وأن نأخذ بزمام المُبادرة وتكثيف جُهودنا.
وعندما نتحدّث عن الثّقة في سياق تطوير السّيرورة المهنيّة فعلينا بداية تقوية ثقتنا بأنفسنا وبأن نكون على قناعة تامّة بأنّنا نستطيع وبأنّنا أهل لأيّة وظيفة مُتاحة. لنُركّز ونستثمر ونضع في رصيدنا مُجمل تجاربنا الحياتيّة السّابقة والتّحديّات والصّعوبات الّتي تخطّيناها والعمل الجماهيريّ التّطوّعيّ الّذي قُمنا به ولا زلنا. لدينا قُدرات وكفاءات تراكميّة تُميّزنا – هي الّتي نضعها أمام أعيننا وأمام أعين الآخرين بما فيهم المُشغّلين كافّة.
ما يُقال هنا في ثقتنا بأنفسنا وبحضورنا الذّاتي المُميّز حريّا بأن يكون لنا نسقا في التّعامل مع مُحيطنا العائليّ والاجتماعيّ ولاحقا مع مُحاضرينا في الكليّة أو الجامعة ومع زُملائنا ومُديرينا في العمل كذلك.
إنّ المجتمع العربيّ بخلفيّته الثّقافيّة والاجتماعيّة هو مجتمع جمعيّ في حين أنّ المجتمع اليهوديّ الغربيّ المُستحوذ على الاقتصاد الإسرائيليّ هو مجتمع صاحب نزعة فردانيّة.
إنّ هذا الاختلاف الثّقافيّ هو أحد أهمّ التّحدّيات القائمة بين شبابنا وشابّاتنا وبين الانخراط النّوعيّ في سوق العمل مما يستدعي التّمرّن وتطوير القول الذّاتي الواضح بما في ذلك تطوير القُدرة على قول الرّأي المُغاير والمُختلف حتّى أمام مدرائنا في العمل لأنّ هذا التّفاعل وهذه الدّيناميكيّة مألوفة ومطلوبة في المؤسّسات والشّركات الرّائدة لأنّها تُشّجع التّنوع والتّباين والتّعدّدية في الأفكار لما في ذلك من تقوية الإبداع والتّفكير فتكثيف الإنتاج والأرباح.
إنّ هذا النّسق الفردانيّ المذكور هو نسق يختلف عن نسقنا الثّقافي الجمعيّ الذي ترعرعنا عليه في محيطنا العائليّ والمدرسيّ والاجتماعيّ، مما يقتضي أن نُقوّي اطلالتنا على النّسق الآخر لنُدرك التّفاعل فيه.
أن نتحدّث عن أنفسنا وعن قُدراتنا وإنجازاتنا في مُقابلة العمل – مش غلط
أن نتحدّث مع مدرائنا بمستوى العينين وأن نُبدي آراءنا بوضوح – مش غلط
أن نطلب تقدّما في مواقعنا المختلفة في العمل – مش غلط
مُعطيات مُثيرة جاءت في بحث قام به مركز (أكورد)– لعلم النّفس الاجتماعيّ للتّغيير الاجتماعيّ في الجامعة العبريّة والّذي صدر قبل عامين تُشير إلى أنّ قرابة ال 50% من طالبي العمل العرب لا يبعثون بمستندات سيرتهم الذّاتية إلى مُشغّلين يهود وذلك لشعور العربيّ في البلاد بأن المُشغّل اليهوديّ غير معنيّ أصلا بتشغيله في مصلحته أو شركته. هذا يُؤكّد أن ثمة أزمة ثقة عميقة ترخي بظلالها على العلاقات بين طالب العمل ومُقدّمه.
أستطيع القول إزاء السّياق آنف الذّكر، أنّنا نُبالغ بعض الشّيء في عدم الثّقة والامتناع من تقديم ترشيحنا، خصوصا أنّ هنالك بوادر انفتاح جيّدة نشهدها لدى مُشغّلين كُثُر الّذين يبغون التّنوّع في مؤسّساتهم والتّوظيف المتنوّع لديهم.
على المُشغّل اليهوديّ أن يُعزّز الثّقة عبر زيادة الوعي بين موظفيه بخصوص التّنوّع والتّعرّف الحقيقيّ على المجتمع العربيّ وكوادره المهنيّة وأن يُبرهن على صدق نواياه، ففي ذلك كفالة لزيادة الثّقة به واختياره كمُشغّل مُفضّل.
إنّ أحد أهمّ المركّبات في تطوير سيرتنا المهنيّة هو تقوية التّشبيك والتّعرّف على شخصيات مختلفة وفي أكثر من مضمار أو فترة زمنيّة محدّدة. هذا التّشبيك يوسّع أمامنا المداخل ويزيد من الفرص المتاحة أمامنا لاستثمارها في سيرورتنا، فعلينا أن نُقوّي ونزيد من ثقتنا بالآخرين أيضا.
نُجمل حديثنا بالقول أنّ الثّقة بالذّات والثّقة بالآخرين هي ضمانة لتطوّرنا المهنيّ والذّاتي وهي رافعة كي نُثري ونؤثّر ونساهم في تطوّر الآخرين أيضا.
كاتب المقال: سامي أسعد وهو مدير عام جمعيّة "كاڤ مشڤيه – قيادة في العمل".