حذارِ التعاون مع أجهزة التحقيق الإسرائيليّة بمقتل فلسطينيين!

إن قرار السلطة الفلسطينيّة الإحجام عن أي تعاون مع أجهزة التحقيق الأمنية الإسرائيليّة بقضية مقتل الشهيدة الصحافية شيرين أبو عاقلة هو القرار الصائب الذي يجب اتباعه في كل قضايا مقتل الفلسطينيّين على يد قوات الاحتلال الإسرائيليّة. ولا يأتي هذا القرار فقط كرد فعل غاضب لحجم الحدث الذي أثار غضب وحزن أمة بأكملها بل لكونه القرار الحكيم موضوعيًا ومهنيًا وأخلاقيًا. قضية مقتل فلسطيني على يد أجهزة الأمن أم خلال اشتباكات مع أجهزة الأمن الإسرائيلية أبعد من ان تكون قضية قتل عادية نسعى من ورائها لمعرفة الفرد المسؤول المباشر كي نعاقبه. وعدا عن أن العقاب لن يطال أحدًا بناء على تجربتنا كحقوقيين على مر عشرات السنين فإن الجريمة لا تقتصر فقط على من قام بالضغط على الزناد وأردى المغدورة شيرين أبو عاقلة قتيلة. المسؤوليّة القانونية تبدأ من لحظة اتخاذ القرار باقتحام مخيم جنين مطلع نيسان الماضي، واستصدار أوامر إطلاق النار والاعتقالات التعسفيّة الجماعيّة وما تلا ذلك من عقابات جماعية على العمال والتجار الفلسطينيّين كرد فعل انتقامي نراه عقب كل عملية استهداف فردية لإسرائيليين داخل الخط الأخضر.

استشهاد شيرين أبو عاقلة كما نعلم لم يكن استثنائيًا في المناخ الفلسطيني. إلا أنّ هويّتها والإجماع على أنها مستحيل أن تشكل خطرًا على أمن وسلامة أحد أوضح للعالم أجمع وبجلاء السهولة المفرطة التي يتم فيها الايداء بحياة الفلسطينيّ الأعزل فقط لكونه فلسطينيّ متواجد بالمكان الطبيعي له سواء كانت أرضه أم بيته أم ساحة عمله.

لذا فالمطالبة بالتحقيق يجب أن تتعدى محاولة البحث عن الفرد الواحد الذي أطلق النار بل الأفراد الذي أعطوا التعليمات لدخول المخيم وأوامر إطلاق النار الذين ألزموا بالعمل وفقًا لها ولزوم بقاء جيش الاحتلال اصلًا في المخيم يوم الاستشهاد وقبله وغيره من الأمور التي لا يستطيع القانون الجنائي الرد عليها. لذا إقامة لجنة تحقيق دولية حياديّة تجمع ما بين المختصين المهنيّين هي المنظومة الأفضل للتقصي وراء جميع الحقائق المتعلقة باقتحام مخيم جنين ومصادرة حريات وحياة الشهداء فيه.

على الرغم من رفض الطرف الفلسطينيّ التعاون بأي شكل مع جهات التحقيق الإسرائيلي نشرت وسائل إعلام إسرائيليّة مساعي الطرف الإسرائيليّ للتحقيق بالموضوع بعد أن كانوا قد أعلنوا دون أي فحص جديّ، بأنه على ما يبدو شيرين قتلت على يد مقاوم فلسطينيّ خلال اشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي. إلا أن حجم الحدث ورد الفعل الساخط عالميًا اضطر إسرائيل بالانصياع لقواعد اللعبة التي وضعتها لنفسها في كل الحالات التي طولبت بالتحقيق بمقتل فلسطينيين أبرياء. وتقضي القاعدة المركزية لهذه اللعبة بأننا نحقق كي نكتب أننا نحقق ونعفي نفسنا من مساءلة مستقبلية للمحكمة الدولية الجنائية. وأما القاعدة الثانية تقول إن التحقيق لن يكون مستقلًا فهو بمثابة حاميها حراميها. الشرطة تحقق بجرائمها والجيش يحقق بجرائمه. والقاعدة الثالثة تقول إننا سنحقق فقط بالحدث العيني ولن نتطرق إلى أي وقائع سبقت إطلاق النار العيني أو بالسؤولية التي تقع على المستوى السياسيّ والعسكري القياديّ. أوامر إطلاق النار لن تكشف أبدًا ومدى قانونيتها لن يبحث. ما سيبحثه المحتل هو هل كان إطلاق النار وفقًا لأوامر إطلاق النار التي وضعت يوم الحدث دون أي علاقة إذا كانت هذه الأوامر شرعية وقانونية أصلًا.

هذا ما حدث تمامًا في تحقيقات جيش الاحتلال ممثلا بأجهزة التحقيق القانونية التابعة له بمقتل المتظاهرين الغزييّن على الجدار الحدودي لقطاع غزة مع إسرائيل عام 2018. بدأت مظاهرات "العودة" يوم 30 مارس لعام 2018 واستمرت بشكل أسبوعي أيام الجمعة من كل أسبوع حتى أواخر عام 2019. وشارك في هذه المظاهرات الآلاف من الأطفال والنسّاء والبالغين بالسن والشباب والصبايا الفلسطينيين من غزة والقطاع. أصدرت قوات الاحتلال أوامر إطلاق نار اتبعها جيش الاحتلال الذي أودى بحياة 223 فلسطيني من بينهم 46 قاصرًا وتسبب بجرح ما يقارب الثمانية آلاف مصاب. وبحسب منشورات منظمة بتسيلم فإن معظم المصابين والقتلي كانوا عزّلا ولم يشكّلوا أي خطر على حياة جنود الاحتلال الذين وقفوا خلف الجدار الحدودي مدججين بالأسلحة. باشرت إسرائيل بالتحقيق بحوادث القتل كرد فعل على النقد الدولي الذي وجه لها ليتضح لاحقًا أنها لم تباشر بالتحقيق إلّا إرضاء للرأي العام كي تستطيع مستقبلا الاستمرار بنفس النهج بعد إعطائها الشرعية لنفسها. ومن الواضح طبعًا أن التحقيقات التي لم تسفر أصلا عن أي نتيجة فعليّة بحيث تمحورت بفحص المستوى الميدانيّ لأن فحص الأحداث العينية كما ذكرت لن يطال موضوع مسائلة المستوى السياسيّ والقانونيّ الّلذين أصدرا وأعطيا شرعية لقانونية أوامر إطلاق النار. تخوف إسرائيل من إقامة جسم حيادي يبحث ليس فقط المسؤولية الجنائية لحوادث القتل إنما أيضًا المسؤولية الوزارية والأمنية التي تقف وراء قانونية أوامر إطلاق الرصاص نحو المتظاهرين آل بإسرائيل فتح التحقيقات الجنائية كي تحول دون مساءلتها بالبعد السياسي والقيادي. كما أن فتح التحقيقات الداخلية بمقدوره أن يرجئ تداول الموضوع في المحكمة الدولية الجنائية الأمر الذي يصب في مصلحة إسرائيل طبعًا.

لذا فإن التماهي مع إسرائيل بقضية مقتل الشهيدة شيرين أبو عاقلة لهو المسمار الأخير الذي سنضعه في نعش التحقيقات والسعي نحو العدالة بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين بقضايا جرائم الاحتلال.

أثبتت أجهزة التحقيق الإسرائيلية أنها في قضايا التحقيق بجرائم الاحتلال وأيضًا التحقيق بمقتل كل فلسطيني بأن هدف التحقيق هو فقط سياسي جاء لتبييض صفحة الدولة أمام المجتمع الدولي وليس إيمانًا منها بضرورة التحقيق بكل جريمة تودري بحياة الأبرياء. رأينا هذا النهج في كل مرة أعلنت فيها إسرائيل نيتها التحقيق سواء بالعدوان على غزة بشهر يناير عام 2009 وشهر آب عام 2014 ونيتها المزعومة اليوم بالتحقيق بمقتل الشهيدة شيرين أبو عاقلة. هذا ناهيك عن مئات الشكاوى العينيّة التي قدّمت إليها على يد مؤسسات حقوق إنسان التي أغلقت دون أي تحقيق جدي وبمصادقة المحكمة العليا الإسرائيلية. إعلان منظمة بيتسيلم الإسرائيلية قبل 4 سنوات إيقاف التعاون مع أجهزة جيس الاحتلال بتقديم الشكاوى والشهادات لم يكن محض الصدفة. كانت خطوة جدّية اتخذتها المؤسسة بعد إدراكها التام بأنها لم تكن غير أداة طيّعة بيد دولة إسرائيل التي استخدمت موضوع فتح التحقيقات بشكاوى بيتسيلم كبطاقة حماية وحصانة من أي نيّة لمحاكمتها دوليًا على يد جهات دولية ومهنية.

وتفيد معطيات مؤسسات حقوق الإنسان الإسرائيلية والفلسطينية بأن آلاف الشكاوى التي قدمت ضد اعتداءات أفراد الجيش والأمن يشمل قضايا قتل استشهد فيها فلسطينيّون لم تسفر عن أي نتائج تحقيق فعلية أو تقديم لوائح اتهام أو إنزال عقاب صارم ضد القتلة بما يتناسب مع حجم جرائمهم.
إن إطلاق النار نحو المغدورة شيرين أبو عاقلة هو نتاج سلوك ممنهج للاحتلال تمت شرعنته على يد أجهزة التحقيق والقضاء سابقًا. لذا فالمسؤول عن استشهاد شيرين هو "القضاء" الممثل بجميع أجهزته القانونية وليس حتمًا "القدر" وليس حتمًا الشخص العينيّ الذي أطلق النار.


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

شاركونا رأيكن.م