الجولان – قراءة في الوضعية القانونية

الرواية (السردية) الإسرائيلية لتبرير العدوان والاحتلال

الصهيونية هي مشروع استعمار استيطاني إحلالي، جوهره احتلال أراضي الغير وتطهيرها من سكانها الفلسطينيين (السكان الأصليين) والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم وتدمير المشهد (الحيز المكاني والسكاني) وتشييد المستعمرات (المستوطنات) على أنقاضه وتوطين المستوطنين اليهود فيها، وذلك على غرار ما يحدث في فلسطين منذ حوالي قرن وفي الجولان منذ احتلاله في العام 1967. 

بدأت إسرائيل تخطط لاحتلال الجولان بعد انتهاء حرب 1948 وإعلان قيام الدولة العبرية على 78% من أرض فلسطين التاريخية، فكانت تبادر إلى خرق اتفاقية وقف إطلاق النار، الموقعة في 20 تموز/يوليو 1949 بين سوريا وإسرائيل، وتهاجم المناطق المنزوعة السلاح. وقد تكللت هذه الاعتداءات المتتالية بعدوان حزيران 1967 الذي أفضى إلى هزيمة العرب واحتلال إسرائيل 1,260 كيلومتراً مربعاً من أراضي الجولان، إضافة لاحتلالها شبه جزيرة سيناء المصرية وباقي فلسطين.

انتهجت سلطة الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب 1967 وبعدها سياسة تطهير عرقي ممنهجة وواسعة النطاق استهدفت معظم سكان الجولان السوريين، فهجرت حوالي 142,000 شخص بشكل قسري ومنعتهم من العودة إلى بلداتهم وقراهم ومزارعهم، التي قامت بتهديمها لاحقاً وشيدت على أنقاضها 35 مستوطنة غير شرعية، ووطنت فيها مستوطنين يهود. بقيت في الجولان المحتل خمس قرى سورية منتشرة على سفوح جبل الشيخ في أقصى شمالي الجولان، يعيش فيها اليوم 28,000 سوري.

انقضت أكثر من خمس وخمسين عاماً على احتلال الجولان ولا توجد بوادر تشير إلى إمكانية استئناف المفاوضات بين نظام الأسد وإسرائيل للوصول إلى تسوية سياسية تنهي الاحتلال، خاصة وأن سوريا أضحت بلداً ضعيفاً ومقسماً بالأمر الواقع وبات النظام ضعيفاً، مسألة بقائه في السلطة مرهونة بإرادة أطراف خارجية، وتحديداً إسرائيل بوصفها أكثر دولة معنية ببقائه. 

تستعرض هذه المقالة رواية المحتل لتبرير عدوانه على الجولان واحتلاله.

ينفي موشي ديان، الذي كان وزيراً للدفاع أثناء الحرب، أنه كانت لدى إسرائيل خطط مسبقة للاستيلاء على الجولان ويعزو احتلال الجولان إلى تزايد الضغوط التي مارسها مستوطنو غور الأردن على المستوى السياسي في إسرائيل، وخاصة على رئيس الوزراء في ذلك الوقت ليفي إشكول، وهو نفسه عضو سابق في مستوطنة دجانيا التي تقع في غور الأردن جنوبي بحيرة طبريا. وبحسب ديان، كان هؤلاء المستوطنون مدفوعين باعتبارات ضيقة، وشكّلوا وفداً جاء في اليوم الثالث للحرب لإقناع إشكول باجتياح الجولان، غير مخفين أطماعهم بأرض الجولان الخصبة.

 اعترف ديان في سياق المقابلة آنفة الذكر بأن إسرائيل هي التي كانت المُبادِرة في معظم خروقات وقف إطلاق النار مع سوريا والاعتداءات على المناطق المجردة من السلاح، فقال: "كنا نخطط لهذه الأحداث بشكل مسبق وكنا نرسل جراراً ليحرث الأراضي الواقعة في المناطق المجردة من السلاح، والتي ليس من الممكن استصلاحها، مدركين مسبقاً أن السوريين سيطلقون النار عليه. وإذا لم يطلقوا النار، كنا نطلب من سائق الجرار أن يتقدم أكثر حتى يفقد السوريون أعصابهم ويطلقوا النار. وعندها كنا نبدأ القصف مستخدمين المدفعية وسلاح الجو. أنا قمت بهذا وإسحاق رابين وجنرالات آخرون فعلوا ذلك.

قال ديان في مقابلة، أجريت معه بعد الحرب مباشرة ونشرت لأول مرة في أبريل 1997، بأنه ارتكب خطيئة جسيمة باحتلاله الجولان في اليوم الأخير من الحرب، وقال: "احتلال الجولان لم يكن ضرورياً". وقد صرح في معرض المقابلة بأنه يمكن التحدث بعبارة "السوريون أوغاد وأنه قد حان طردهم، وربما أكثر من هذا الكلام"، ولكن هذه ليست سياسة، أنت لا تضرب العدو لأنه شرير، بل لأنه يهددك، والسوريون في اليوم الرابع من الحرب لم يشكلوا أي تهديد لنا، أي لإسرائيل. هذا الاعتراف لا يلغي حقيقة أطماع مؤسسي الحركة الصهيونية وقادة إسرائيل لاحقاً في الجولان، إذ هنالك الكثير من المراسلات الرسمية والشواهد التي تدلل من دون أدنى شك على هذه الاطماع. فهذه الأقوال تأتي في سياق اعترافات ديان بالأخطاء التي ارتكبها خلال مسيرته السياسية والعسكرية وتؤيد في الوقت نفسه الادعاءات القائلة بأن نظام البعث، الذي كان حافظ الأسد أحد أركانه الرئيسيين ووزيراً للدفاع فيه أثناء الحرب، لم يكن معنياً بتحرير فلسطين أو ببناء دولة قوية ومستقرة في سوريا، بل كانوا يطلقون شعارات رنانة ضد إسرائيل في سياق الصراع فيما بينهم على كرسي الحكم في سوريا. 

تذكّر اعترافات ديان، بشأن مبادرة القوات الإسرائيلية إلى مهاجمة المناطق المجردة من السلاح واستفزاز السوريين في الوقت الذي لم يشكلوا فيه أي تهديد جدي على إسرائيل عشية الحرب، بخطط إسرائيل المبيتة لاحتلال الجولان، مما يحمل إسرائيل مسؤولية المبادرة لهذه الحرب العدوانية. على الرغم من كل ذلك، يحاول معظم الباحثين الإسرائيليين قلب الأمور وإيجاد الذرائع لنواياهم المبيتة لاحتلال الجولان، فيرجعون السبب المباشر للحرب إلى سياسة حكومة البعث التي كانت تدعو لحرب شعبية ضد إسرائيل لإزالتها من الوجود، في الوقت الذي يعترف معظم الباحثين الإسرائيليين بأن دعوات الحكومة السورية للحرب الشعبية كانت ضرباً من الخطابات النارية والعنتريات، لأن تصرفات سوريا على أرض الواقع كانت على تناقض مطلق مع هذا الخطاب.

يرى معظم الباحثين والكتاب في إسرائيل أن العد التنازلي لحرب 1967 بدأ مع صعود حزب البعث للسلطة في 8 آذار/مارس 1963، والبدء بتحويل مياه نهر الأردن وتشجيع العمليات العسكرية للفلسطينيين ضد إسرائيل عبر الجبهة السورية. وكان أصحاب الاتجاه السائد على المستوى الإسرائيلي الرسمي – السياسي والعسكري – مقتنعين بإن السوريين غير معنيين بحرب مباشرة مع القوات الإسرائيلية، بل بحرب استنزاف مشابهة للحرب الشعبية في فيتنام والجزائر.  ويعترف مقربون من صانعي القرار في إسرائيل بمقدار الكره الذي كان يكنه قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لكل ما هو سوري، وبإدراكهم أن القوات السورية لم تكن تمثل تهديداً جدياً لإسرائيل. وبحسب يسرائيل ليئور، السكرتير العسكري لرئيس الحكومة ليفي أشكول: "كان اسحاق رابين مصاباً بمتلازمة سوريا"، أسوة بغيره ممن خدموا على الجبهة الشمالية لأن الخدمة في هذه المنطقة، بمواجهة "العدو السوري"، تنتج كرهاً شديداً للشعب والجيش السوريين، مما جعل رابين وآخرين عنيفين في العمليات القتالية على مصادر المياه في الشمال. 

كما يؤكد خبراء إسرائيليون على أن الحالة التي كانت سائدة على الحدود الشمالية قبل 1967 لم تثر قلقاً جدياً لدى الإسرائيليين وكانت تقييماتهم لحالة الجيش السوري قبل الحرب أنه كان جيشاً ضعيفاً وقليل الخبرة، جراء عمليات التطهير المتكررة التي حدثت في صفوفه واستبدال قياداته. وكانوا مدركين أن هذا الجيش غير مؤهل لمجابهة إسرائيل من ناحية العدد والعتاد ومستوى خبرة الضباط وأنه لم يكن يمتلك أية مخططات للمجابهة ولم يكن يشكل أي تهديد لإسرائيل.

بحسب مصادر إسرائيلية – رسمية وغير رسمية - لم يكن لدى السوريين أي مخطط لمهاجمة إسرائيل وبدء الحرب، إذ اكتفوا خلال اليوم الأول من الحرب بقصف المستوطنات الإسرائيلية على طول الحدود وأرسلوا بعض الطائرات لشن هجمات داخل إسرائيل في مناطق خليج حيفا ومجيدو وطبريا، إلا أن الإسرائيليين تصدوا لها وأفشلوها. وقتل في اليوم الاول إثنان من الإسرائيليين وجرح 16، في حين أصيب 226 منزلاً و 30 مركبة جراء القصف. وفي 6 حزيران/يونيو أرسلت سوريا، بضغط من المصريين، لواء مشاة لمساندة الأردن في ردع هجوم محتمل على الضفة الغربية، إلا أن هذا اللواء وصل في 8 حزيران/يونيو، أي بعد انتهاء العمليات القتالية بين الأردن وإسرائيل.

بعض المصادر الإسرائيلية تقول إن موشي ديان أبدى قبيل الحرب معارضة شديدة لمهاجمة سوريا لأن ذلك كان سيعني، حسب رأيه، فتح جبهة إضافية ضد العرب وسيشتت القوات الإسرائيلية. لذلك، اعتبر ديان تصرفات قادة الجيش على الجبهة السورية في بدايات 1967 بمثابة استفزازات خطيرة من شأنها ان تؤدي إلى حرب، وذلك على أثر إسقاط إسرائيل 7 طائرات ميغ سورية فوق بحيرة طبريا في 7 نيسان/أبريل 1967. وقد عاتب ديان رابين بالقول: "قمتم بأعمال غير مدروسة، وصلتم بالطيران حتى دمشق وهاجمتم قرية السموع الفلسطينية في وضح النهار"، فيما قال لعيزر فايتسمان: "هل جننتم؟ أنتم تأخذون البلد إلى الحرب". 

يفضي هذا التناقض في الرواية الرسمية الإسرائيلية إلى سؤال: لماذا حدث العدوان على سوريا؟ يعترف الإسرائيليون بأن احتلال الجولان لم يأت نتيجة لتطور سير المعارك خلال الحرب ولم يجر التخطيط له مسبقاً، بل إن السبب يكمن في خوف الإسرائيليين من سوريا لسعيها، حسب اعتقادهم، إلى القضاء إسرائيل. ولكن الإسرائيليين أنفسهم يعترفون بأن هذا الخوف كان مبالغاً فيه وأن طموح قادة الجيش كان ينصبّ بالدرجة الاولى على إثبات قدرتهم على تحقيق النصر على الجيوش العربية مجتمعة. أما الخوف من السوريين، فكان مجرد ذريعة لمهاجمة سوريا واحتلال الجولان، وذلك نتيجة ضغط مستوطني وادي الأردن المدعومين من قبل الصقور في الحكومة الإسرائيلية وحزب العمل ومعظم قادة الجيش.

تؤكد المقابلة التي أجرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية مع موشي ديان صحة هذا الادعاء، حيث قال: "إن طمع سكان وادي الأردن في الأرض والمياه كان السبب الرئيسي وراء الضغط على الحكومة الاسرائيلية لاحتلال الجولان". وهذا ما تؤيده مجريات الاحداث قبل الحرب عندما استقبل رئيس الحكومة ليفي إشكول وفداً من المستوطنات الواقعة على خط المواجهة، ترأسه يعقوب إشكولي رئيس مجلس مستوطنات الجليل الأعلى، وذلك بتشجيع من قبل رئيس الجبهة الشمالية دافيد العازار ووزير العمل يغئال ألون، وحثوا رئيس الحكومة على احتلال الجولان لتبديد الخوف من السوريين.

لكن ما الذي جعل ديان يغير رأيه ويعطي أمراً بمهاجمة سوريا واحتلال الجولان، فيما يدعي الإسرائيليون أن الحكومة الإسرائيلية رضخت لضغط ديان وامتنعت عن مهاجمة السوريين؟ يبرر الإسرائيليون هذه الخطوة بصعوبة توقع تصرفات ديان وكيفية اتخاذه القرارات، إذ يصفونه بالإنسان الغامض الذي يصعب التنبؤ بخطواته وبأن لديه قابلية لتقبل الضغط الذي يمارس عليه من السياسيين والعسكريين. ويعزو ديان الهجوم المتأخر على الجولان واحتلاله إلى انهيار القوات المصرية وقبول المصريين بوقف إطلاق النار ووصوله لقناعة بأن الاتحاد السوفييتي لن يتدخل، مما أزال خطر التورط على جبهتي قتال، وبالتالي انتفت أسباب معارضته لرأي غالبية أعضاء الحكومة بوجوب احتلال الجولان. 

ينفي الإسرائيليون نيتهم المسبقة بمهاجمة سوريا خلال حرب 1967 ويعزون قرارهم احتلال الجولان إلى اعتراض المخابرات الإسرائيلية بسبب رسالة بعثها عبد الناصر إلى الرئيس السوري نورالدين الاتاسي خلال الحرب، جاء فيها: "اعتقد أن إسرائيل ستحشد قواتها ضد سوريا للقضاء على الجيش السوري، وأقترح عليكم القبول الفوري بوقف إطلاق النار وذلك للحفاظ على الجيش السوري. لقد خسرنا هذه المعركة". ويقول مساعد ديان العسكري، العقيد يتسحاق نسياهو، إنه عندما وقعت هذه الرسالة أمام أعين ديان أجاب بأنه يتعين الصعود حالاً باتجاه الجولان. وحينها أوصلته بدافيد العازار قائد الجبهة الشمالية حيث أمره بمهاجمة الجولان قائلاً: "سوف أخبرك لماذا وافقت على العملية. أولاً: المصريون قبلوا بوقف إطلاق النار. ثانياً: النظام السوري في حالة انهيار". 

على الرغم من قبول السوريين نصيحة جمال عبد الناصر وإعلانهم وقف إطلاق النار في صباح 9 حزيران/يونيو 1967، هاجمت القوات الإسرائيلية السوريين واحتلت الجولان خلال يوم واحد، مما يؤكد وجود تخطيط إسرائيلي مسبق لاحتلال الجولان. ويرى بعض الباحثين الإسرائيليين أن تخوف السوريين من إكمال الهجوم الإسرائيلي نحو دمشق دفعهم إلى إعلان التعبئة العامة في راديو دمشق والطلب من السكان حمل السلاح والتأهب. وفي سياق هذه الأحداث، طلب السوريون من الاتحاد السوفييتي استخدام جميع الوسائل الدبلوماسية لوقف التقدم الإسرائيلي. وفي 10 حزيران/يونيو أذاع راديو دمشق البيان رقم 66 الموقع من وزير الدفاع حافظ الاسد معلناً سقوط القنيطرة، وذلك قبل أن تدخلها القوات الإسرائيلية بست ساعات. وادعى حافظ الأسد بأن لا علم له بالبيان وإن ذلك من صنع القيادة السياسية التي أرادت تصفية حساباتها معه، وقال إنه نشر بياناً آخر بعد ذلك بقليل يعلن فيه عدم سقوط القنيطرة.

احتلال الجولان في ضوء القانون الدولي 

تنويه: هذه المقالة هي جزء من بحث للكاتب بعنوان "الجولان السوري: واقع الحال بعد خمسة وخمسين عاماً من الاحتلال"، نشره مركز حرمون للدراسات المعاصرة في تشرين الأول/أكتوبر 2022.

انقضت أكثر من خمسة وخمسين عاماً على احتلال الجولان ولا توجد بوادر تشير إلى إمكانية استئناف المفاوضات بين نظام الأسد وإسرائيل للوصول إلى تسوية سياسية تنهي الاحتلال، خاصة وان سوريا أضحت بلداً ضعيفاً ومقسماً بالأمر الواقع، وبات النظام ضعيفاً، مسألة بقائه في السلطة مرهونة بإرادة أطراف خارجية، وتحديداً إسرائيل بوصفها أكثر دولة معنية ببقائه. 

تستعرض هذه المقالة احتلال الجولان المستمر في ضوء القانون الدولي المعاصر.

حاولت السلطات الإسرائيلية تبرير عدوانها على العرب وحشد التأييد له بدعوى أنه يندرج في سياق "الدفاع الشرعي عن النفس" في مواجهة "العدوان العربي". لكن ليس لهذه الحجة ما يسندها في القانون، حيث يحظر ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوة العسكرية باستثناء حالتين: الأولى لغرض الدفاع عن النفس عند التعرض لهجوم عسكري فعلي، والثانية بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن يجيز للدول، منفردة ومجتمعة، استخدام القوة عند حدوث تهديد للأمن والسلم الدوليين، أو حدوث عمل من أعمال العدوان. 

على الرغم من الوضوح الذي يميز الميثاق بشأن وقوع الهجوم المسلح (If an armed attack occurs)، إلا أنه بقي عرضة لتفسيرات مختلفة ومتناقضة، تبرر أفعال العدوان. فهنالك تيار فقهي في القانون الدولي (أصحاب التفسير الضيق) ينادي بوجوب تقييد استخدام القوة وأن يقتصر ذلك على حالات تخطي قوات الدولة المهاجِمة الفعلي لحدود دولة اخرى. ويرى أنصار التيار الفقهي الآخر (أصحاب التفسير الموسع) إن الميثاق لا يبطل أحكام القانون الدولي التقليدي التي كانت تجيز للدول حق استخدام القوة بالمبادرة إلى شن هجوم وقائي، بل أن الميثاق حالة إضافية مكملة لها.

يدعم أصحاب التفسير الموسع رأيهم بالدعوة إلى تفسير نصوص ميثاق الأمم المتحدة استناداً إلى مبادئ القانون الدولي السابقة للميثاق، بما في ذلك حق الدفاع عن النفس، بدعوى أن الشعوب لم تتخل عن هذا الحق بعد إقرار الميثاق. وقد استند أصحاب هذه النظرية على رأي كان قد طرحه كيلوج الذي شارك في وضع ميثاق باريس (بريان - كيلوج) سنة 1928، الذي جاء فيه: "إن كل أمة حرة في جميع الظروف، وبغض النظر عن نصوص المعاهدات، في الدفاع عن أراضيها ضد الهجوم أو الغزو، وهي صاحبة الحق في تقدير الظروف التي تتطلب لجوئها للدفاع الذاتي". وقد عارض الفقيه برونلي مقولة التفسير الواسع للمادة 51 من الميثاق، معتبراً من يدّعون بأنها أبقت على القانون التقليدي بشأن الدفاع عن النفس، إنما يستندون على الرأي القائل بأن القانون التقليدي بقي على حاله، مغفلين بذلك التطور الذي طرأ عليه خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها.

يؤيد معظم فقهاء القانون الدولي التفسير الضيق للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ومنهم الفقيه هانس كلسن H.Kelsen) ) الذي يعتبر تأييد الحق المتأصل (inherent right) في الدفاع عن النفس بأنه يساهم في إبطال أحكام المادة 2/4 من الميثاق، والتي تحظر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة بحكم أن استخدام القوة في الدفاع الشرعي مرتبط فقط بالاستخدام غير المشروع للقوة، وليس ضد أية انتهاكات أخرى للقانون. ويرى كلسن أن الدفاع الشرعي عن النفس مؤسس على أحكام القانون الدولي الآمرة، وأن الميثاق نص على عبارة هجوم مسلح في المادة 51 بدلاً من استعمال كلمة عدوان (Aggression)، مستبعدا أشكال العدوان الأخرى التي لا تصل إلى درجة الهجوم المسلح.         

ويعلق البروفيسور فيرير على قرار محكمة العدل الدولية في قضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة، فيقول: "فقط التحديد الواضح والدقيق للعدوان المسلح الذي يجيز اللجوء للدفاع عن النفس والأشكال الأقل جدية لاستعمال القوة يساعد على الحد من عولمة النزاعات الداخلية". وتكمن أهمية هذا التحليل في عدم إساءة تفسير الدول مفهوم وقوع العدوان المسلح لتبرير اعتداءاتها على جيرانها، أو على دول أخرى من خلال القيام باستفزازات عسكرية أو تشجيع الأعمال الإرهابية ضدها لإيجاد حالة من التوترات الحدودية واللجوء لاستخدام القوة واحتلال هذه الدول أو السيطرة على أجزاء منها، علماً بأن الأعمال الإرهابية لا تعد عدواناً مسلحاً.

تؤيد العديد من الدول، وبضمنها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، نظرية الهجوم الوقائي من أجل الدفاع عن النفس بمعزل عن تعرض أراضيها لهجوم فعلي. فقد عبر ممثل الولايات المتحدة الامريكية عن موقف بلاده بهذا الشأن في مجلس الأمن بالقول أن ميثاق الأمم المتحدة لا ينهى عن استعمال القوة بصورة مطلقة، وهو يتيح استخدام القوة من أجل الحفاظ على قيم الحرية والديمقراطية والسلام. ويتفق عضو محكمة العدل الدولية البروفيسور الأمريكي شبيغل مع هذا الطرح، إذ أعلن في قضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة بأن اللجوء للدفاع عن النفس ليس مشروطاً فقط بوقوع الهجوم المسلح على الدول. وادعى جورج شولتز وزير الخارجية الأمريكي في عهد ريغان بأن دعم الإرهاب أو تأزيم الأوضاع في الدول الأخرى أو تشجيع العمل الإرهابي انطلاقاً من حدود الدول الأخرى هو بمثابة هجوم مسلح على دولة أخرى، وبالتالي يجوز في هذه الحالات استخدام القوة للدفاع عن النفس. وفي معرض تبريره للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الدول العربية واحتلال الأراضي، أيد الفقيه الإسرائيلي شبتاي روزين التفسير الواسع للمادة 51 من الميثاق بدعوى أنه يتيح للدولة فرصة حماية نفسها ضد استخدام القوة أو التهديد باللجوء إليها. 

يجمع الفقهاء العرب على مبدأ التفسير الضيق للمادة 51 والذي يجيز للدول استخدام القوة دفاعاً عن النفس بوقوع هجوم مسلح فعلي على أراضيها. ويعرف الدكتور محمد غانم الهجوم المسلح بالأعمال الحربية التي تقوم بها قوة مسلحة ضد دولة أخرى، وأن الإجراءات الدبلوماسية أو الاقتصادية التي تمس مصالح الدول لا تعتبر عدواناً مسلحاً، ولذلك لا تجيز المادة 51 الدفاع الشرعي الوقائي. 

تبرر إسرائيل عدوانها على الدول العربية تحت طائلة الدفاع عن النفس بمواجهة تهديدات هذه الدول لها من خلال الإجراءات التي اتخذتها قبل الحرب لإثبات حقها في الدفاع عن النفس. لكن ليس لهذه الحجة ما يؤيدها في القانون، إذ يجمع معظم فقهاء القانون الدولي على أن حدوث الهجوم المسلح الفعلي هو وحده الذي يعطي الدولة حق استخدام القوة من أجل الدفاع عن النفس. ومن هذا المنطلق، فإن ادعاءات إسرائيل لتبرير عدونها على العرب باطلة، وليس لها ما يسندها في القانون الدولي لأن ادعاء الهجوم الوقائي يتنافى مع أحكام المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر استخدام القوة أو التهديد بها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة. 

استناداً إلى كل ما سبق، فإن الهجوم الإسرائيلي على الدول العربية سنة 1967 واستخدام القوة المسلحة لاحتلال الأراضي العربية بما فيها الجولان السوري، هو بمثابة عدوان لتحقيق أطماع توسعية على نحو مناف لمبادئ وأحكام القانون الدولي المعاصر.


 1 موشي ديان، وقفة مع الذات (سبر غور)، صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، 27/4/1997. شوهد في 1/10/2022، في: https://bit.ly/3SKRTX0


 2 المصدر نفسه.

أنظر أيضاً: ثائر بو صالح، سكان الجولان السوري بين التهجير والاحتلال؛ الحركة الوطنية السورية في الجولان في مواجهة سياسة الاحتلال الإسرائيلي 1967-2016، دراسة لم تنشر، ص4-5.

أيال زيسر، بين إسرائيل وسوريا- حرب الأيام الستة وما بعدها، دراسات في ولادة إسرائيل، 1998، ص206-207. شوهد في 28/8/2022، في: https://bit.ly/3Ky3p51

 3 موشي ديان، وقفة مع الذات (سبر غور)، صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، 27/4/1997. شوهد في 1/10/2022، في: https://bit.ly/3SKRTX0
 4 موشيه ماعوز، يسرائيل- سوريا سوف هاسخسوخ؟! (اسرائيل-سوريا نهاية النزاع؟!)، أور يهودا، 1996، ص91.

 5 زيسر، المصدر نفسه، ص216.

 6 المصدر نفسه، ص212.

د. نزار أيوب

حائز على شهادة الدكتوراة في القانون الدولي وماجستير في إدارة النزاعات والوساطة، وهو باحث ومحام ينشط في مجال الدفاع عن حقوق الانسان في الأراضي المحتلة. متخصص في القانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان. عمل كمحام وباحث قانوني مع مؤسسة "الحق" الفلسطينية في رام الله في الفترة 2000-2013، وباحثاً ومستشاراً في العديد من المنظمات الأهلية الفلسطينية. له العديد من الدراسات فيما يتعلق بمنظومة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، والوضع القانوني للأراضي العربية المحتلة (فلسطين والجولان) منذ عام 1967 وخاصة المكانة القانونية لمدينة القدس ومواطنيها الفلسطينيين، التطهير العرقي، النقل والتهجير القسريين للسكان المدنيين، وغيرها. اعتمد في الفترة 2014-2015 مستشاراً وباحثاً لدى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أنكتاد) في مجال التجارة الدولية والقوانين الدولية والداخلية التي تحكم عملية التجارة الفلسطينية. كما أجرى العديد من الدراسات حول النزاع في سوريا كالتدخل الدولي الإنساني في سوريا وواجب الحماية، أسس العدالة الانتقالية في سوريا: عدالة انتقالية أم سياسة انتقالية؟، مساءلة المجرمين، المبادئ المحصنة (الراسخة) في دستور سوريا الديمقراطية

شاركونا رأيكن.م