غيض من فيض الأعمال الشعرية

 ليس للأبد هذا الخراب

   

I

مكتفيًا، كنت في البدء

أسمّي هبوب الهواء كما أهوى

نسيمًا إذا أحببته

وريحًا لها الجهاتُ كلُها

ثم، حين يوجع رغبتي أو يسرق

حبّة القمح إلى غير خبزي عاصفة.

أسمّي خطاي على الأرض باسمي

كنعان يمشي هنا، فتشبهه البلاد

تُباهي به، بشرًا مقيمين أو عابرين

زرعًا، طيرًا جارحًا أو دواجن

ماشية أو ضواري، تُباهي به.

أسمّي من بين النساء امرأة حبيبة

تختارني فنقترن وننجب كفاية اسمينا.


II

عشيرة، كنت يا عشيرة، ومكتملًا

وإن في ثقوب الصخر نغفو

تحت سقف الطين أو في بيوت الشعر،

نصطاد طريدة لنقتات أو نغرس الزرع، نرعى

عشيرة كنت يا عشيرة

ننتمي للماء حين ينزف من شقوق الأرض أنهارًا

أو حين يسيل من شفة السحابة مطرًا

ننتمي للنار دافئة في موقد الحطب

للمحراث للشمس تلسع ظهر السنبلة

وأيضًا قبل كل شيء للعشيرة

نَتْبَعُ إيقاع وُجهتها في الحبّ أو الموت

من الرَحم إلى الكَفَنِ

هل انتقيناكِ إلهة يا عشيرة أم انتقيتنا عابدين؟


III

وحيدًا، كنت في بيتي، غافلًا

ظننتهم ضيوفًا، بأمتعة قليلة

خفاف الظل يأتون ويمضون.

قلت أقاسمهم بعض ليلي،

وفاكهة نضجت على شجري

فنأتنس قليلًا، ثم يمضون إلى مشاغلهم

يعودون من حيث جاؤوا خفافًا.

ظننتهم خفاف الظل حين جاؤوا،

لكنهم سرقوا ظلاليَ كلَها،

وأقاموا على جسدي مذابحهم.

وحيدًا كنت في بيتي

لا اخوتي يسندون خطاي،

ولا الدرب أليفٌ تحت أقدامي.


IV

شظايا، كنت في الأرض، شتاتًا.

طردت من بيتي ليسكنه الغريب، ومن حقلي طردت،

ومن جسدي الذي صار مجزرة.

كان عليّ أن أنجو لأدرك ما جرى

فوجدتني غيري وقد أرهقتني الأسئلة

من أنا دون اسم وعنوان؟ من أنا دون ذاكرة وحلم؟

لم تكن خطايا واضحة حتى تيقنت أني

"لست منهزمًا ما دمتُ أقاوم"

وإن شردتني الخسائر باسم النكبة والنكسة،

وإن سُمّيتُ لاجئ.

شظايا كنت في الأرض شتاتًا

كما لو أنها البلادُ، رئة، وقد زفرتني

لتشهق كل هذا الخراب.


V

مقاومًا بدأتُ الدربَ، وأنهيه مقاومًا.

لا أمس يحملني إلى حلمي

غير ذاكرةٍ شلحَت عن خطاها رماد اليأس

لتختار ضوءً ساطعًا في أخر العتم.

ليس للأبد هذا الخرابُ المعششُ في وقتنا

هنالك غدنا الحر الذي نسعى إليه معًا

ضع حبرَك في دواتِهِ وخُذ ريشةً من يديها

لنكتب، ليس للأبد هذا الخراب

ثمة نايٌ كامنٌ في القصبِ اليابسِ

هات أنفاسك لنعزف أو نكون الريح التي تجرف

ما تساقط من القصب اليابس

ليس للأبد هذا الخراب

ثمة نايٌ يعزف غدَنا الحرّ الذي نكون.



لاجئ

يومَ كنتُ صغيراً أمسكَت أمّي يدَيّ وقالَت:

سنملأُ جرّةَ ماءٍ من النبعِ "عينِ القَصَب"

ونجتازُ هذا الخراب،

تَعلّق بأطرافِ ثوبي

وثَبّت عيونَكَ في الأرضِ يا ابني لتَحفظَ وقعَ خطايَ،

تَتبّع رنينَ الخلاخِلِ في قدمَيّ لتَنجو.

إذا غبتُ عنكَ فلا تَنتظرني،

ولكن تَذكّر: هنالكَ شمسٌ تمدُّ يدَيها إليكَ برفقٍ

إذا اختارَ قلبُكَ من ضوئها دَربَهُ،

هنالكَ دربٌ إلى الصبحِ يُفضي. فلا تَنتظرني

ولكن تَتبّع رنينَ الصباحِ على وسنِ تحتَ جفنِك،

ورائحةَ الوردِ فوقَ سريرِ طفولتِكَ العاثرة.

......

منذُ كنتُ صغيراً

ظلّ خيطٌ ناسلٌ من ثوبِ أمّي

عالقاً في يديّ.


فراغ 

أمجّدُ شياطينَ الخرابِ وأخذِلُ الملائكةَ.

أُمزّقُ بعضَ ذاكرتي وأنبشُ بعضَها،

فلا أرتاحُ مِمّا مزّقَت يداي

ولا أعثرُ في الركامِ على ما بحَثتُ.

أُطفئُ بعضَ قلبي وأُشعلُ بعضَهُ،

فلا يبردُ تحتَ الرمادِ جمرٌ

ولا تستيقظُ النارُ في الحَطَبِ الرّطبِ.

أُغلق بعضَ النوافذِ وأفتحُ البعضَ،

فلا الريحُ هناكَ تسكتُ

ولا ينطقُ الضوءُ هنا.

أهربُ من قبضةِ الحبّ

لاهثًا إلى قبضةِ الحبّ،

فيمتدّ الفراغُ في كلّ الجهات

ويمتزج الفقد أبديًا في دمي،

مُرًّا مرّةً ومالحًا أخرى،

خشنًا مرّةً وجارحًا أخرى.

عبثًا أرتّبُ الأشياءَ فيّ حسبَ موضِعِها،

فأنا شتاتٌ لا ينتهي، شوكٌ يابسٌ في الشوقِ

ووردٌ ذابلٌ في أفقِ الشرفات.

وأنا، هل حقًا أنا؟


طمأنينة 

بخيبَةِ الجنودِ العائدينَ من هزائِمِهم

محمّلينَ باليأسِ والتعبِ.

بيأسِ الأرامِلِ الواقفاتِ على أعتابِ حزنهنّ

عندَ قبورِ أزواجهنّ.

بالتعبِ الذي يقتاتُ من أنفاسِ طفلٍ

يركضُ في الوديانِ خلفَ كرةٍ

تتدحرجُ أسرعَ منهُ قليلًا،

بحزنِهِ وهوَ يفقدها،

وبالفقدِ الذي لا يرجعُ منهُ الحيّ حيًا.

أواصلُ غرسَ بذورِ الأسئلةِ

في أحشاءِ هذا اليباس،

عند مفاصلِ الانكساراتِ أغرسُها،

وأمضي إلى الحلمِ الذي انتظرتُ

لا ناجيًا من براثنِ الخوفِ

ولا مدمنًا يأسَ الضّحيةِ

لكنها الطمأنينةُ التي تقودُني إليها

فتنةُ القلقِ.

ها إنه البابُ قد انفتحَ

ها إنني أعبُر.

ياسر خنجر

شاعر من الجولان السوري المحتل. صدرت له المجموعات الشعرية: "طائر الحرية" "سؤال على حافة القيامة" "السحابة بظهرها المحني" "لا ينتصف الطريق" بالإضافة إلى مجموعة قصائد مترجمة للإنكليزية بعنوان "جراح الغيمة"

رشا حروق
ياسر الرائع دائما ... كل التقدير لك ❤️
الأحد 2 نيسان 2023
رأيك يهمنا