"الموظّف المدعوم".. تحديات التشغيل في السلطات المحلية العربية
عندما نتحدث عن السلطة المحلية فمن الطبيعي أنها لا تنشط كمؤسسة من تلقاء نفسها. إنما ذلك منوطٌ بشكل تام بالموظفين والمدارء القائمين عليها، بحيث تتشكل علاقة طردية بين كفاءات ومهنية هؤلاء ومستوى عمل المؤسسة وجودة خدماتها.
وعلى ذكر الخدمات، عند الحديث عن خدمات التعليم والرفاه لعل أول ما يخطر ببال الكثيرين هي الوزارات ومؤسسات الحكم المركزي، وقلّما ما يجري الحديث عن السلطة المحلية، باعتبارها سلطة التعليم والرفاه والبيئة والبنى التحتية وغيرها من الخدمات. في الواقع، مهما تقدمت الخطط الحكومية وطرائق عملها، يبقى التطبيق على أرض الواقع منوطًا بمهنية ونجاعة عمل السلطة المحلية الّتي تمثل الحكم المركزي في تلك الخدمات وتعتبر يده الطولى.
أشارت العديد من الأبحاث الّتي تناولت موضوع الحكم المحلي العربي منذ سنوات التسعين لكون غالبية السلطات العربية هي المشغل الأكبر في منطقة نفوذها. هذا الواقع لم يتغير حتى اليوم، إذ تشغل كل سلطة مئات الموظفين. يعزو الكثيرون ذلك لبعد غالبية البلدات العربية عن مركز البلاد والمدن الكبرى، ونقص فرص العمل والمناطق الصناعية في محيطها.
على صعيد ظروف العمل، يعتبر الكثيرون ظروف العمل في السلطة المحلية مثالية، فهي مكان قريب من البيت، ساعات العمل ليست طويلة، العطل بأوقات ثابتة، والأجر والامتيازات أفضل من أماكن أخرى. ناهيك عن الاستقرار (إلى حد كبير) في الوظيفة، بخلاف العمل في القطاع الخاص، الّذي قد يحيطه خطر إفلاس المشغل، تراجع الأسواق، الفصل من العمل الخ..
هذه المعطيات، إذا ما أضيفت لمعطيات أخرى حول انخراط المواطنين العرب في سوق العمل، البطالة والبطالة الخفية في أوساط الأكاديميين، اختلاف معدل الدخل للمواطن العربي مقارنة مع المواطن اليهودي والتمثيل المتدني في القطاعين العام الخاص، تفسر كلها مجتمعة التهافت على العمل في السلطات المحليّة، المساحة الّتي يشغلها موضوع التعيينات والمكاسب الماديّة في فترة الانتخابات، والأرض الخصبة للوعود الانتخابيّة الّتي يوفرها.
في الواقع، ونظرًا إلى استحكام السياسة العائلية-الحمائلية في مختلف السلطات، فإن العمل في السلطات المحليّة بعيدٌ تمامًا عن المثاليّة الّتي يتصورها البعض. بل بات هذا العمل محاطًا بشكوك حول الوعود والمحسوبيات الّتي تحل بدل الاعتبارات المهنية، بمخاطر انتهاك استقلالية الموظف، إخضاعه لرغبات إدارة السلطة ومحاولات النيل منه إذا ما خالفها. هذه الظروف وهذه الصورة النمطيّة الّتي تبلورت حول العمل في السلطة المحليّة تجعل منه ملاذًا أخيرًا لمن لم يجد مكانًا أفضل للعمل، بينما تهرب الكفاءات و""العقول"" بعيدًا!
تعاني معظم السلطات العربيّة منذ إقامتها فشلًا إداريًا وترديًا في الخدمات – يشعر بذلك كل مواطن يلجأ إلى المدينة أو البلدة اليهودية المجاورة ليرتاد المتنزهات مع أطفاله أو حتى ليمارس رياضة المشي على رصيف آمن وخالٍ من البضائع.
دون التقليل من الادعاءات والمطالب (العادلة) حول الإجحاف في الميزانيات والتخطيط الّذي مارسته الحكومات المتعاقبة، إلّا أن اليوم قد بات جليًا للكثيرين أن استخدام هذا الادعاء لتبرير أي فشل وتقصير على المستوى المحلي هو بمثابة مغالطة. فسيطرة العائلية السياسية على المشهد الانتخابي وتأثيرها فيما بعد على إدارة السلطة المحليّة واعتباراتها لا تخفى على أحد.
وعندما نتحدث عن فشل وقصور على المستوى المحلي نعني بالضرورة فشل على المستوى المهني-الشخصي لأصحاب المناصب والوظائف المختلفة.
لقد فهمت القوى العائلية السياسيّة الوزن الاقتصادي والتأثير الانتخابي لمنظومة التعيينات والتعاقدات منذ زمن. اليوم، وفي ظل التغييرات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة الّتي طرأت على المجتمع العربي، تعتبر هذه المنظومة بمثابة الورقة الأخيرة (والرابحة) لدى قوائم ومرشحي الحمولة. بينما تظل المشاعر والضغوطات داخل العائلة غلافًا لهذه العلاقات المادية.
يحد القانون من تأثير الاعتبارات العائليّة والانتخابيّة على قرارات التعيين وقبول الموظفين، غير أن هذا التأثير محدود لمستويين: منع تعيين الدائرة العائلية القريبة من منتخبي الجمهور ومدراء الأقسام في السلطة، ومنع تعيين موظفين لا يستوفون الشروط الأدنى للوظائف. خلال عملنا في جمعية ""محامون من أجل إدارة سليمة"" نعلم أن المحاولات لمثل هذا النوع من التعيينات لا تتوقف، بينما يفيد مواطنون وموظفون داخل السلطات أن الاعتبارات العائلية والسياسية تحيط السواد الأعظم من التعيينات.
هذا النوع من الاعتبارات لا يتوقف عند التعيين. بل نراه يتكرر ويأخذ صورًا أخرى في منظومة القوى البشرية، مثل امتناع سلطات عن إشغال مناصب مركزية (سلطات بدون مراقب أو مدير قسم تربية) لسنوات طويلة، امتناع مستمر من تقديم موظفين لا يؤدون عملهم أو يخالفون القانون لمحكمة الطاعة، محاولات فصل تعسفية، ترقية ""المقربين"" فقط وغير ذلك.
وسط هذه الفوضى والانتهاكات لمنظومة الموارد البشرية في السلطة، لا عجب لتداخل الاعتبارات المهنية مع اعتبارات وإملاءات خارجية أخرى، تأثير على عمل الموظفين ومحاولة بعضهم استرضاء إدارة السلطة، وتقصير مستمر مع عدم وجود حسيب ورقيب – خاصة إذا كان الموظف ""مدعومًا""!
هذا الجو العام يجعل من الموظف الّذي يحاول العمل بشكل مهنيّ ويطمح في التقدم في حال لا يحسد عليه، حيث يكون عمله مليئًا بالضغوط والتوترات، بعيدًا عن المثالية الّتي تصور للبعض. وتجعله يفكر بالهرب بعيدًا، بحثًا عن راحته واحترام مهنيّته، وبالطبع هو لا ينصح أصحاب كفاءات آخرين بمكان عمل كهذا.
كما أسلفنا، العواقب لهذه الفوضى نعيشها كمواطنين، ونشعر بها عبر تردي الخدمات وشحها. كلّما أمعن المواطن العربي في جانب من جوانب عمل السلطة المحليّة يجد إهمالًا هنا وتقصيرًا هناك، وكلما قارنها بواقع البلدات غير العربية لا يجد غير شعور الحسرة وخيبة الأمل.
خيبة الأمل هذه تطغى على المشهد المحلي للأسف. التغيير يجب أن يبدأ بهذا، أن نقنع أنفسنا ومن حولنا أن التغيير في واقع سلطاتنا المحلية وبلداتنا ممكن. بشكل خاص، لا بد من تغيير مفهوم السلطة كمشغل من منظور انتخابي، وتعزيز فكرة كونها مشغل من حيث الكفاءات، المهنية، مستوى الخدمات، مساءلة ومكافأة الموظفين. ومع الإيمان يبدأ العمل!
كاتبا المقال:
المحامي نضال حايك وهو مدير عام جمعية ""محامون من أجل إدارة سليمة"" و
المحامي محمد قدح وهو محامٍ عضو في الطاقم القانوني للجمعية.
الصورة: لجمعية ""محامون من أجل إدارة سليمة""."