التغيير من الداخل والركض الماراثونيّ
لا يمكن أن نبدأ الحديث عن التغيير المجتمعي من دون أن نتطرّق أولًا لمن نحن ولماذا نحن، من يجب أن يقوم بالتغيير وما معنى أن يكون التغيير من الداخل وما لهذا كله وللركض؟
نحن المجتمع الفلسطيني في الداخل نشكّل 21% من سكان إسرائيل. نحن مجتمع أصلاني، يمتد من شمال البلاد إلى جنوبها جغرافيًا، يقطن معظمنا في البلدات والقرى العربيّة التي تعاني من التهميش والسياسات العنصريّة منذ أكثر من 74 عامًا حيث يكفينا ركوب السيارة لمدة أقل من 10 دقائق لنرى الفرق بين البلدات التي نعيش فيها والمستوطنات التي بنيت بجانب كل واحدة من بلداتنا العربيّة، لنرى الفرق في البنى التحتية، نرى الفرق في التخطيط والبناء، المشاريع الإسكانيّة، المواصلات العامّة والقائمة تطول وتطول وتطول…
ولم أذكر وجود مستوطنات تبعد عن بلداننا العربيّة أقل من 10 دقائق عبثًا، لأن سياسة الدولة هي بناء هذه المستوطنات الصغيرة والحد من أي توسّع ممكن للبلدات العربيّة. هل تعلمون أنه منذ العام 1948 لم تُبنَ أية بلدة عربيّة جديدة، بينما تم في المقابل بناء أكثر من 500 بلدة ومستوطنة يهوديّة.
هذا مثال واحد على السياسات العنصريّة التي تتخذها الدولة ضد المجتمع العربي في البلاد ومن هنا يمكننا القياس على العديد من المجالات والأمور الحياتيّة المختلفة.
وهذا ينقلنا للحديث عن دورنا نحن، أبناء هذا المجتمع في إحداث التغيير الذي نصبو إليه كي ننعم بحياة كريمة في وطننا.
التغيير من الداخل لأنه ما حك جلدك مثل ظفرك
حك جلدنا يعني أن نتكاتف ونخطط ونعمل معًا على إحداث التغيير في جميع المرافق الحياتيّة، بناء المؤسسات، تطوير المشهد الثقافي في بلدتنا العربيّة، تطوير المشاريع الاقتصاديّة، الاهتمام والاستثمار بالحيّز العام الذي يخدمنا جميعًا.
عندما يأتي التغيير من الداخل يكون تغييرًا حقيقيًا، ناتجًا عن وجع حقيقي لدى من قرروا إحداثه. ولذا، يمكن من خلاله التأثير على متخذي القرار، إن كان على مستوى الحكم المحلي أو على مستوى الحكم المركزي.
في الأسطر القادمة سوف أشارككم ركضتي الماراثونيّة الخاصّة في إحداث هذا التغيير، ولكم من هناك أن تتخيلوها في جميع مجالات حياتنا الأخرى
في عام 2010 بدأت مسيرتي التعليميّة في جامعة تل أبيب حيث بدأت بدراسة موضوع العلاج الطبيعي (الفيزوترابيا). في العام نفسه، بادرت لإقامة مشروع صغير، هو "معهد مستقبلنا"، لمنح طلاب المدارس الابتدائية الذين يأتون من خلفيات اقتصاديّة صعبة المساعدات اللازمة ليتمكنوا من مواكبة تعليمهم على أحسن وجه.
هذه المبادرة الصغيرة قادتني في السنة الثانية إلى التطوع في مركز ريادة الأعمال في الجامعة. في حينه، لم أكن اعرف معنى كلمة ريادة في اللغة الانجليزيّة entrepreneurship. هذه الكلمة المركّبة من 14 حرفًا!! وكنت أجهل العديد من الأمور الأخرى، لكن بعد فترة وجيزة جدًا، أدركت اهميّة المكان الذي كنت أتواجد فيه واهميّة قطاع التكنولوجيا وريادة الأعمال في البلاد، كأحد أهم الأعمدة الاقتصاديّة. وهنا قلت لنفسي: لا بدّ أن يكون لمجتمعنا دور كبير في هذا القطاع، إذ أن مجتمعنا لا تنقصه القدرات البشريّة للقيادة والتميّز في هذا المجال، وإنما ما ينقصنا هو إيماننا بذاتنا وبقدراتنا وبناء المنظومة البيئية التي تدعم انخراطنا في هذا المجال. وبعد تجارب مختلفة من التطوّع في مركز ريادة الأعمال في الجامعة والعمل مع شركة ناشئة وخوض تجربة السفر إلى الولايات المتحدة للمشاركة في برنامج تدريبي والعمل من هناك، اتضح لي أن حجم الفجوة بين المكان الذي نأتي منه والمكان الذي يتجه إليه هذا العالم هي فجوة كبيرة جدًا، ولا بد لنا من العمل على سد هذه الفجوة.
من هذا الإيمان بطاقات مجتمعنا وبأهميّة أخذ دورنا الفعّال في أهم المرافق الاقتصاديّة والاجتماعيّة نشأت "حاسوب" كمبادرة مجتمعيّة بسواعد من داخل مجتمعنا العربي. من قرية عرعرة في المثلث، بدأنا مجموعة من الشباب بإجراء لقاءات أسبوعيّة في بيت الصديق حسن أبو شعلة، المبادر للمشروع. ثم أخذت هذه اللقاءات تستقطب شبانًا وشابات من مجتمعنا من جميع البلدات العربيّة، طلابًا في المرحلة الثانوية، طلابًا جامعيين ومهندسين ورياديين.
تمحورت اللقاءات الأسبوعية حول تعلّم التقنيات الحديثة، التشبيك بين أعضاء المجموعة وزرع ثقافة الإنتاج في القطاع التكنولوجي، بدل أن نكون في الجانب الاستهلاكي فقط.
كان مجتمع "حاسوب" يكبر باستمرار فبدأنا بعد عام واحد بإجراء اللقاءات في مختلف البلدات العربيّة، لقاءات هدفت إلى كشف أوسع جمهور من مجتمعنا على عالم التكنولوجيا، كما بدأنا في الوقت نفسه بمأسسة هذا الحراك الشبابي وتسجيله "جمعيّة مسجّلة"؛ وبهذا بدأنا بوضع الأحجار الأساسيّة لبناء المؤسسة، إلى جانب العمل الميداني.
في السنوات الأربع الاولى، كانت موارد "حاسوب" شحيحة جدًا. وتم استثمار كل هذه الموارد في تنفيذ المشاريع. وكانت "حاسوب" خلال تلك السنوات كلها تدار بشكل تطوعي وتُبنى بسواعد أبناء مجتمعنا والشباب الذين يكرّسون وقتهم وطاقاتهم لإحداث التغيير.
نهاية العام 2017 كانت لحظة مفصليّة في عمل "حاسوب"، حين فهمنا أن حجم العمل وحجم المسؤولية كانا قد فاقا قدرة "حاسوب" على القيام به بشكل تطوعي. في تلك المرحلة، انتقلت "حاسوب" من مؤسسة اجتماعيّة تطوعيّة إلى مؤسسة تبني مشاريعها بشكل استراتيجي وبات طاقمها يكبر تدريجيًا فتشكّلت أيضًا هيئة إداريّة من البلاد، أوروبا والولايات المتحدة. وقد رافق هذا التغيير تنظيم جولة تجنيد أموال وتوسيع شبكة معارف وشركاء "حاسوب" في الولايات المتحدة وكان لتلك الرحلة أثر كبير على نمو "حاسوب" وتطورها في المراحل القادمة.
"حاسوب"، التي انطلقت بلقاءات أسبوعيّة واستمرت بفضل إيمان متطوعيها من أبناء مجتمعنا بأهميّة دورها، أصبحت تلعب دورًا مهمًا في تطوير ريادة الأعمال والتكنولوجيا في مجتمعنا، إذ أصبحت تعمل في ثلاثة محاور أساسيّة هي: بناء البنى التحتيّة المناسبة لتطوير ريادة الأعمال والتكنولوجيا في المجتمع العربي، العمل على تمكين الطاقات البشريّة في مجتمعنا لتحقيق ذاتها في هذا القطاع وأخيرًا اجتذاب المستثمرين من داخل مجتمعنا العربي للاستثمار في الشركات الناشئة في مراحلها الأولى.
هذا العام كان عامًا حافلًا حيث افتتحت حاسوب أول مركز للابتكار في قرية عرعرة هو "كراج حاسوب". واستعمال كلمة "كراج" أتى من المكان الذي نشأت منه الكثير من الشركات الناشئة العالميّة مثل "أبل" و"مايكروسوفت" و"چوچل" على أمل أن تنشأ بيننا مثل هذه الشركات. استثمرت حاسوب أكثر من 7 ملايين شيكل في ترميم مبنى قديم وتاريخي في عرعرة بدعم من صناديق وأشخاص من خارج البلاد وداخلها.
بعد افتتاح "كراج حاسوب" بفترة وجيزة، تكللت الجهود بفوز "حاسوب" وشركائها بعطاءين من سلطة الابتكار بقيمة 17.7 مليون شيكل من أجل تفعيل مركز الابتكار في عرعرة وبناء مجموعة مستثمرين في مبادرين من مجتمعنا العربي.
خلال سيرورة عملنا في "حاسوب"، كان هناك الكثير من لحظات الضعف والكثير من اللحظات التي كان من الممكن أن نستسلم فيها للتعب والإرهاق وشحّ الموارد. ولهذا، فإنّ التغيير هو مثل سباق الماراثون – عدْوٌ للمسافات الطويلة. ولكي تقطف ثمرة نجاحك، لا بد من الاستمرار في الركض حتى آخر الماراثون.
في اللحظة الأولى التي شاهدت فيها البريد الالكتروني الذي يبشّرنا بالفوز بمنح سلطة الابتكار، تذكّرت بداية الطريق وأول 5,000 شيكل قمت بتجنيدها لتنظيم نشاطات "حاسوب" في الأيام الأولى.
"حاسوب" هي مثال حي في مجتمعنا على قيادة التغيير من الداخل، بسواعدنا. لا زالت الطريق طويلة لإحداث التغيير المنشود، لكن الدرس الذي تعلمناه من تجربتنا هو أن قيادة التغيير ووضع الرؤيا وخطط العمل المهنيّة وبناء الشراكات المناسبة هي السبيل في بداية هذا التغيير، على أمل أن نرى مبادرات أخرى من داخل مجتمعنا في مختلف المجالات، التربية والتعليم، الثقافة، الرياضة وغيرها…
وهكذا، نكون نحن من نغيّر واقعنا بأيدينا ونبني مجتمعًا عربيًا مبادرًا ورياديًا.
أتمنى لكم عامًا ملؤه الخير والنجاح في كل ما تعملون، دمتم بخير.