كنّا أيّام الدراسة الثانويّة نتداول حزّورة طريفة، نسأل فيها ما اسم آخر سيّارة سِباق صُنِعت في السعوديّة. كان الجواب عادة نفي وجود أيّة سيّارة مصنوعة في السعوديّة، لكنّنا كنّا نصرّ على جواب. وبعد أن يستسلم الحاضرون، نكشف أنّ اسمها "قَيْدُ الأوابِد" لِيَدبّ الضحك. للتذكير، التعبير "قيد الأوابد" مقتبس من بيت في معلّقة امرئ القيس: (وقَدْ أَغتدي والطيرُ في وُكُناتِها / بِمُنجَرِدٍ قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَلِ)، حيث يقول الشاعر إنّه قد يخرج في الصباح الباكر، والطيور لا تزال في أعشاشها، على ظهر حصان منجرد (قليل الشَّعر) هيكل (ضخم)، لِشِدّة سرعته تبدو الأوابد (الوحوش) وهي تعدو مقيَّدةً في أماكنها وهو يسابقها.

"قَيْدُ الأوابِد" لم تُصنع لغاية اليوم، لكن أُعلنَ مؤخّرًا عن سيّارة سباق كهربائيّة فلسطينيّة لبنانيّة الصنع، "قُدس رايْزْ" (نهوض القدس) اسمها. وفي بعض الدول العربيّة تُصنع سيّارات مثل "شام" في سوريّة، "رمسيس" في مصر، "غزال ١" في السعوديّة و"صاروخ الجماهيريّة" في ليبيا. تُباع هذه السيّارات غالبًا في الأسواق المحلّيّة مع قليل من التصدير، دون أن تنجح في منافسة شركات السيّارات المعروفة عالميًّا. للمقارنة، شركة "هيونداي" الكوريّة الجنوبيّة بدأت بتجميع قطع ومحرّكات من شركات مختلفة لتبيع أوّل سيّارة عام ١٩٦٨، وبعدها طوّرت صناعاتها لتبني وتبتكر محرّكات وهياكل سيّاراتها بشكل مستقلّ وهي تحتلّ اليوم المرتبة الثالثة عالميًّا في مبيعات السيّارات (إحصائيّات ٢٠٢٢).

لنترك صناعة السيّارات وننتقل إلى عالم "الهايتك". لنفرض، مثلًا، أنّنا قرّرنا بناء حاسوب سريع، وتكريمًا لامرئ القيس، نريد تسويقه باسم "قيد الأوابد"؛ فماذا علينا أن نفعل؟

الإمكانيّة الأقصى فخرًا ومثاليّة هي تلك التي نقوم فيها بتصميم وتصنيع كلّ مركّبات الحاسوب بأنفسنا. لكنّ هذا المسار ليس عمليًّا في عصرنا، حيث تتغيّر مواصفات المنتجات بسرعة نتيجة لتزايد المنافسة وتطوّر احتياجات السوق. بكلمات أخرى، لا يمكننا الانتظار لسنوات طويلة ريثما نراكم المعرفة والخبرات والأدوات والمصانع من أجل أن ننزل إلى السوق بمُنتَج أكل الدهر وشرب على مواصفاته. حتّى شركات الحواسيب الكبرى أمثال دِل، أپِل، إتش پي، لينوڤو وغيرها، لا تقوم بتصميم كلّ قطع الحاسوب بأنفسها، بل تستعين بشركات أخرى لتزوّدها بالقطع الإلكترونيّة، البسيطة منها كالمقاوِم والمكثِّف، والمعقّدة كوحدة المعالجة المركزيّة (CPU) التي تسوّقها شركات مثل إينتل، إيه إم دِي، آرْمْ، وَكْوالْكوم. بالإضافة، بعض الشركات الكبيرة تكتفي بتصميم وتصنيع فئة قليلة من قِطَع الحاسوب وتدمجها في تصميم الحاسوب مع قطع تشتريها من شركات أخرى لتوفّر وقتًا ومصاريف. بعدها تتعاقد مع شركة "تجميع" (في الصين أو غيرها) لتجمع وتركّب الحاسوب بناء على "خرائط" الهندسة، وتكون عادة بتكلفة أقلّ (مقارنةً مع الدولة الأصل) بسبب تكلفة أقل في الأيدي العاملة. هذا الأمر شبيه تمامًا بما نلاحظه في صناعة الملابس والأحذية، حيث يكون مطبوعًا على لاصقة منتَج ماركة شهيرة إنّه صُمِّم في إيطاليا أو فرنسا أو الولايات المتّحدة وصُنع في الصين / تايلاند / ڤيتنام أو غيرها.

راجع/ي صورة رقم ١ التي تُظهر خريطة بطاقة إلكترونيّة والبطاقة الحقيقيّة المبنيّة بناء على الخريطة.


قد نتساءل لماذا علينا أن نتعب من أجل صناعة منتج يصنعه غيرنا؟ وهل سيكون بإمكاننا أن ننافس هذه الشركات الكبيرة صاحبة المعرفة وعشرات السنين من الخبرة؟ قال جبران قبل قرن: "ويلٌ لِأمّة تأكل ممّا لا تزرع، وتشرب ممّا لا تعصر، وتلبس ممّا لا تنسج". ومع أنّها إجابة قصيرة، لكن يسهل الاقتناع بضرورة التصنيع كشَرط أساسيّ للاستقلال الحقيقيّ. بكلمات أخرى، ما المانع؟ ولِمَ لا نسعى لتصنيع منتجات متطوّرة على قدم وساق مع الدول المتطوّرة، فنشتري منها ونتنافس لبيعها في الأسواق العالميّة، ويخفّ ارتباطنا بما تمليه علينا دول أخرى تملك المعرفة والسيطرة ولا تشاركها؟ ألم نفتخر كثيرًا بفريق المغرب في المونديال الأخير؟ نحن نفتخر بأفراد أمّتنا الذين يصلون العالميّة، لكن علينا أن نصبو لمرحلة نفتخر فيها بمنتجات نصدّرها للعالم.

لنَعُد إلى بناء الحاسوب... نريد أن نتعلّم من شركة "هيونداي". كخطوة أولى على طريق الألف ميل، وفرضًا تيسّر التمويل للتصنيع والتسويق (والتمويل والتسويق في حالنا موضوعان لمقالات أخرى)، يمكننا أن نتعاقد مع شركة شرق آسيويّة تصنع الحواسيب بجودة جيّدة ونطلب منها تركيب حاسوب بالمواصفات التي نختارها (بناء على المتداول في السوق) وأن نختار ألوان وشكل الصندوق ونطبع عليها ماركتنا "قيد الأوابد" مع شعار الحصان المنجرد الهيكل. هذا المسار هو الأسرع للحصول على منتَج للتسويق. ويمكننا، في إطار الخطوة الأولى، تأهيل كادر مهنيّ يزوّد الزبائن بالدعم الفنّيّ، على الطريق نحو بناء المعرفة ومراكمة الخبرات، وأن نخطّط حملة دعايات تنشر الوعي عن المنتج الجديد.

بموازاة ذلك، نشغّل طاقمًا هندسيًّا حماسيًّا ليصمّم الجيل الثاني من حواسيب "قيد الأوابد"، يقوده معماريّ/ة حواسيب مع خبرة عالميّة، ويعمل الطاقم على اختيار مركّبات الحاسوب الإلكترونيّة والميكانيكيّة، إدارة ومراقبة تركيبه في شركة تجميع، ثمّ اختباره كهربائيًّا، ميكانيكيًّا، وبالبرمجة، بناء على الاختبارات القياسيّة، على نحو مشدّد لضمان أعلى جودة تؤدّي إلى الثقة بالمنتج.

وفي المرحلة التالية، بعد أن نكون قد راكمنا أرباحًا وشهرة للماركة، نخطو خطوة كبيرة بأن نصمّم شريحة إلكترونيّة كي نبدأ بمراكمة المعرفة اللازمة من أجل هدف أعلى، وهو تصميم وحدة المعالجة المركزيّة بأنفسنا بدلًا من شرائها. ولهذا الهدف نحتاج إلى كادر أكاديميّ وكادر هندسيّ، اكتسبا المعرفة والخبرة بالعمل لصالح شركات دوليّة تصمّم وتصنّع الشرائح.

وبما أنّ السيرة انفتحت، لنقل بعض الكلمات عن الشرائح الإلكترونيّة. عِماد صناعتها عنصر كيميائيّ يسمّى السيليكون، الذي يمكن استخراجه من الرمل - أيّ أنّه متوفّر بكثرة في الطبيعة وسعره رخيص. ومع اكتشاف تقنيّة تسمح بتسخير خواصّه في بناء الدارات الإلكترونيّة، اندلعت ثورة تكنولوجيّة غير مسبوقة في التاريخ البشريّ، ابتدأت في ستّينيّات القرن المنصرم، تسارعت بشكل مذهل في تسعينيّاته، ولا تزال مستمرّة إلى يومنا هذا؛ بحيث أنّها لم تترك أيًّا من مجالات الحياة (الغذاء، الصحّة، البناء، وسائل النقل، التعليم، التجارة، الكتابة، التواصل، الترفيه والكثير غيرها) إلّا وأثّرت عليه وطوّرته.

والأساس في عنصر السيليكون أنّه شبه موصِل (semiconductor). والمقصود بذلك أنّه موصل رديء للكهرباء (على عكس النحاس مثلًا)، ولكنّه ليس عنصرًا خاملًا. اكتشف العلماء أنّه عن طريق تَشْويب السيليكون (أي جعله مَشُوبًا) بعناصر أخرى، تتحسّن كثيرًا قدرته على التوصيل وتؤهّله للاستخدام في بناء دارات كهربائيّة صغيرة جدًّا حجمًا، لا تميّزها العين إلّا بعد تكبيرها بملايين المرّات ويتمّ "صبّها" ووصلها فيما بينها بشكل مكثّف على شريحة صغيرة عن طريق سلسلة عمليّات كيميائيّة وضوئيّة بالغة الدقّة والتعقيد (صورة ٢)، ثمّ قصّ وإلصاق ورزم ولحام لنحصل على شريحة مرزومة كما هو مبيّن في صورة ٣.



 



يومًا ما سيقيم شبابنا وشابّاتنا "المْلاح" شركة "قيد الأوابد" وسيكون عنوان الإيميل لإرسال السيرة المهنيّة هو: موارد-بشرية@قيد-الأوابد.قُم.

هاني سلوم

مهندس حاسوب وكاتب يعمل في شركة "إنڤيديا" في منصب "مدير أقدَم" للمنشورات الهندسيّة والتسويقيّة

شاركونا رأيكن.م