التصالح مع الصهيونية أم ردعها؟
ثلاث قوائم، تمثل ثلاثة توجهات/ منطلقات سياسية واضحة ومميزة، تتنافس على أصوات فلسطينيي ٤٨ في الانتخابات التشريعية ال٢٥ في إسرائيل، والتي ستنعقد يوم الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر. علمًا بأنها الانتخابات التشريعية الخامسة خلال ثلاث سنوات ونصف.
هذه القوائم الثلاث هي:
قائمة الجبهة والعربية للتغيير (وتتشارك فيها الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة مع الحركة العربية للتغيير) ويرأسها أيمن عودة.
قائمة التجمع (وتمثل حزب التجمع الوطني الديمقراطي) ويرأسها سامي أبو شحادة.
القائمة العربية الموحدة (وهي الذراع البرلماني للحركة الإسلامية الجنوبية) ويرأسها منصور عباس.
أمًا التوجهات/المنطلقات السياسية، المتلاقية منها والمتباينة، والتي يمكن استقاؤها من البيانات والتصريحات والمقابلات في وسائل الإعلام والبرامج السياسية للقوائم الثلاث، فيمكن إجمالها بالتالي:
نقاط الاتفاق:
هناك توافق شبه تام بين القوائم الانتخابية الثلاث، والتي تمثل الحركات السياسية الأربع المذكورة، حول أهمية عمل ما أمكن وما يلزم من أجل الدفاع عن حقوق ومصالح فلسطينيي ٤٨، وعلى رأسها حقوق المواطنة المتساوية وما ينساب عنها من خيرات اجتماعية واقتصادية وروحية؛ وهناك توافق شبه تام حول أهمية صيانة الهوية الفلسطينية العربية المميزة لفلسطينيي ٤٨؛ كما أن هناك توافقًا شبه تام حول عمل ما أمكن وما يلزم من أجل تحسين ظروف المعيشة لفلسطينيي ٤٨، والذي يتطلب معالجة قضاياهم العالقة والمستجدة وعلى رأسها العنف والجريمة المستشريان خلال السنوات الأخيرة؛ وأخيرًا، هناك توافق شبه تام حول دعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال.
نقاط الخلاف:
عدا الخلاف حول مسألة المحاصصة (أي حول حصة كل طرف من مقاعد المرشحين للانتخابات)، هناك مسألتان خلافيتان رئيستان: الأولى، مسألة الليبرالي مقابل المحافظ اجتماعيا وفكريًا. وهنا يحتد الخلاف بصورة خاصة بين القائمة العربية الموحدة من طرف، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ليبرالية الهوى، من الطرف الآخر. أمًا الثانية فذات علاقة بالقضايا الوطنية الفلسطينية العليا وما تفرضه من قيود وكوابح على دعم، أو المشاركة في أي ائتلاف حكومي بعد الانتخابات وبناء على نتائجها. فحزب التجمع الوطني الديمقراطي، مثلًا، يأبى المشاركة في أي ائتلاف حكومي أو دعمه من الخارج لأنه يرى نفسه خارج لعبة المعسكرات الصهيونية التي تكرس الفوقية اليهودية في الدولة، تلك الفوقية التي وجدت آخر تعبير لها في قانون القومية لعام ٢٠١٨، وتلك الدولة اليهودية التي يريد الحزب الوطني الديمقراطي تحويلها إلى دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها المتساوين في الحقوق. أمّا القائمة العربية الموحدة، من الطرف الآخر، فعازمة على المشاركة في أي ائتلاف حكومي يقبل بها، وذلك لغرض التأثير بالحد الأقصى في معالجة القضايا العالقة والمستجدة لفلسطينيي الداخل، وبصورة خاصة القضايا الحارقة منها. وخلافًا لهذين الموقفين/ الطرفين، تتخذ قائمة الجبهة والعربية للتغيير موقفًا وسطًا مفاده الاستعداد المبدئي لدعم معسكر الوسط/اليسار الصهيوني، وذلك شريطة استجابته لمطالبها على الصعيدين المدني والوطني الفلسطيني (أي معالجة القضايا العالقة والمستجدة لفلسطينيي الداخل، إضافة إلى إلغاء أو تعديل قانون القومية وغيره من القوانين الجائرة، والشروع في مفاوضات مع الطرف الفلسطيني لإنهاء الاحتلال).
من العرض القصير أعلاه يتضح أن القائمة العربية الموحدة تعطي القضايا المدنية والمعيشية لفلسطينيي الداخل أولوية على القضايا الوطنية الفلسطينية العليا. وهي أولوية زمنية ومن حيث الأهمية على حد سواء. وفي المقابل، فقائمة التجمع تعطي الأولوية للقضايا الوطنية الفلسطينية العليا، وتعتبر أن القضايا المدنية والمعيشية مشتقة منها. أمّا قائمة الجبهة والعربية للتغيير فتعطي أولوية متساوية لهذين النوعين من القضايا. وفي هذا الصدد، يجدر التذكير بأن الجبهة، ومنذ ولادتها في الربع الأخير من القرن الماضي، قائمة على مثلث مطالب متساوي الأضلاع: السلام والمساواة والعدالة الاجتماعية. كما ويفسر العرض القصير أعلاه أسباب انسحاب القائمة العربية الموحدة من القائمة المشتركة في شهر آذار/ مارس من العام الماضي من جهة، وأسباب انسحاب أو إقصاء قائمة التجمع من القائمة المشتركة الثلاثية في شهر أيلول/سبتمبر الماضي من جهة أخرى. لقد انسحبت الموحدة من المشتركة لأنها تتبنى فكرًا وتمثل جمهورًا محافظًا، وذلك خلافًا لشركائها السابقين، ولأنها أيضا عازمة على المشاركة في أي ائتلاف يقبل بها (طمعًا منها في التأثير بحده الأقصى). وأما التجمع فقد انسحب، أو انتزع، من القائمة المشتركة الثلاثية على خلفية المحاصصة أولا (عدم الرضى عن حصته المقترحة من مقاعد المرشحين)، وبسبب قناعة قيادته بأن شركاء الأمس عازمون على التوصية على مرشح معسكر الوسط/ اليسار الصهيوني لتشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات، وذلك إضافة إلى دعمها من الخارج بعد التشكيل.
الخلاف في العمق:
التوجهات/ المنطلقات المتباينة، والطافية على السطح، هي، في اعتقادي، تجليات لخلافات في العمق يتوجب استكناهها والكشف عنها. وهي، كما سوف نرى، خلافات ليست جديدة، وإن تم كبتها أو إسكاتها لغرض إقامة القائمة المشتركة عام ٢٠١٥، كما لغرض بقائها لاحقًا. هذه الخلافات في العمق هي المسؤول الرئيس عن الانفجار الذي بعثر القائمة المشتركة الرباعية إلى ثلاث شظايا/ قوائم. هذه الخلافات في العمق يمكن تحديدها والتعرف عليها بناء على استقصاء المواقف المتباينة من الدولة اليهودية (عصب الصهيونية)، مفهومًا ومشروعًا ودولة:
أولًا: باسم الواقعية السياسية وتحت غطائها، تسعى القائمة العربية الموحدة (الذراع البرلماني للحركة الإسلامية الجنوبية) إلى تحقيق إنجازات لفلسطينيي الداخل على مستوى الميزانيات والمخصصات والخدمات، وذلك دون تحدي الطابع اليهودي للدولة. وهي تقول على لسان رئيسها بأن يهودية دولة إسرائيل أمر واقع يوجب التسليم به والتعايش معه وتحقيق ما أمكن من الإنجازات دون التصدي له ومناهضته. القائمة العربية الموحدة متصالحة أو، قل، مستعدة للتصالح، إذن، مع مفهوم ومشروع الدولة اليهودية، كما عرفها قانون القومية سيء الذكر في صيف عام ٢٠١٨، ذلك القانون الذي يكرس ويشرعن الفوقية اليهودية في الدولة. الصوت الوطني الفلسطيني للقائمة العربية الموحدة خافت جدًا، أقل ما يقال.
ثانيًا: خلافًا للموحدة، ينادي حزب التجمع الوطني الديمقراطي بالدولة الديمقراطية لجميع المواطنين، وهذا يعني مباشرة التصدي للطابع اليهودي للدولة، والنضال من أجل تحويلها إلى دولة ديمقراطية تساوي في الحقوق، كل الحقوق، بين جميع مواطنيها. بكلمات أخرى، ينادي التجمع بتجريد دولة إسرائيل من صهيونيتها. علمًا بأن تحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها يفتح الأبواب أيضًا لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأوسع، وقد يأخذ مثل الحل شكل الدولتين الديمقراطيتين المتجاورتين بأمن وسلام أو شكل الدولة الديمقراطية الواحدة للفلسطينيين والإسرائيليين اليهود. وباختصار، حزب التجمع يأبى التصالح مع الصهيونية، فكرًا ومشروعًا ودولة. ولأنه كذلك، فقد كان عرضة لخطر الشطب أكثر من مرة قبيل الجولات الانتخابية للبرلمان الإسرائيلي (الكنيست).
ثالثًا: الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة هي، من بين أمور أخرى، الذراع البرلماني للحزب الشيوعي الإسرائيلي. والجبهة، مثل الحزب الذي يقبع في صلبها، تقوم، كما ذكرت، على مثلث مطالب متساوي الأضلاع: السلام (ويعني مناصرة حل الدولتين، والذي بدوره يتطلب دعم إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل وعلى أساس حدود الرابع من حزيران لعام ١٩٦٧، وتكون القدس الشرقية عاصمة لها)، والمساواة (والتي تعني المساواة في الحقوق المدنية والقومية لفلسطينيي الداخل)، والعدالة الاجتماعية (والتي تتطلب التوزيع المنصف للثروة والفرص بين جميع مواطني الدولة، مع التأكيد على إنصاف الشرائح الأقل حظًا). وإذا كانت الجبهة رافضة لقانون القومية وغيره من القوانين الجائرة التي تنتقص من حقوق فلسطينيي الداخل، إلا أنها قابلة بفكرة ومشروع الدولة اليهودية، شريطة ألا تكون ليهوديتها أولوية على ديمقراطيتها. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن الحركة العربية للتغيير، شريكة الجبهة في القائمة لانتخابات الكنيست الـ ٢٥، لا تختلف كثيرًا في توجهاتها/ منطلقاتها عن الجبهة، وإن كانت، خلافًا للجبهة وللتجمع، خالية من الأعضاء والمؤيدين اليهود غير الصهاينة.
ولإجمال التباينات والخلافات في العمق، وتحديدًا حول مسألة يهودية دولة إسرائيل أقول: إذا كان الحزب الوطني الديمقراطي رافضًا لفكرة ومفهوم ومشروع الدولة اليهودية، وإذا كانت القائمة العربية الموحدة غير متوجسة من ذلك أو غير مبالية تجاه ذلك، فإن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب الشيوعي في صلبها، قابلة مبدئيًا بذلك، شريطة أن تكون الدولة يهودية بقدر ما هي ديمقراطية، وشريطة ألا تسد الطريق أمام قيام دولة فلسطينية حقيقية إلى جانبها وشرقها.
وختامًا، بصرف النظر عن نتائج انتخابات الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر، فإن لتوجهات/ منطلقات كل من القوائم الثلاث، والمتنافسة على أصوات الناخبين من فلسطينيي الداخل، جمهورًا واسعًا من المؤيدين والمتعاطفين، جمهورًا يخترق أيضًا أوساط المقاطعين للمشاركة في الانتخابات عن مبدأ، والممتنعين عن التصويت بسبب اللامبالاة أو خيبة الأمل من أداء القوائم/ الأحزاب خلال السنوات الماضية. وإذا كانت نسبة تصويت فلسطينيي الداخل سوف تقرر حجم كل من القوائم الثلاث، فإن حجم هذه القوائم سوف يؤثر بدوره، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على تشكيل الائتلاف الحكومي القادم في إسرائيل.
عن موقع "العربي الجديد".