لم تعد إسرائيل تكتفي بالديمقراطية
تحدد وثيقة طبرية التي صدرت سنة 2002 وصاغها العديد من الحاخامات والعسكريين والسياسيين والأكاديميين اليهود، أن إسرائيل دولة يهودية، وأنها دولة ديمقراطية، ولم تكتفِ الوثيقة بذلك، بل حددت المسألة الثالثة بكثير من الثقة، أن إسرائيل هي دولة ديمقراطية يهودية، وليس هناك تعارض بين الأمرين على الإطلاق، وأضافت الوثيقة أيضا بصفاقة لا مثيل لها، بحيث إن إسرائيل دولة محبة للسلام، وأنها تحترم حقوق الأقلية العربية، وأنها مستعدة للتسويات، كانت هذه الوثيقة أشبه بمغسلة الكلام "الفاخر" على حد تعبير مثقف يهودي آخر.
هذه الوثيقة التي يمكن الحديث عنها كثيرا، تبدو الآن وبعد عشرين عاما من توقيعها مثيرة للرثاء حقا، فقد أثبت المجتمع الإسرائيلي بمنظومته العسكرية والأمنية والسياسية والاجتماعية أنه يدخل نفقا مظلما بحثا عن مقولة حاسمة قادرة على التجميع والتوحيد، إذ يبدو أن القوة القطاعية والمجتمعية والحزبية في إسرائيل في ذروة الاختلاف على تحديد مضمون إسرائيل ومعناها وهدفها، وبالتالي سياساتها، فتكرار عمليات الانتخاب وتشكيل حكومات ضعيفة وهشة وتضخم معسكر اليمين بكل أنواعه وتجلياته بالذات، ما هي إلا تعبير عن ذلك الصراع العنيف على شكل الدولة ومضمونها وطرق إدارتها ورسم سياساتها.
إسرائيل التي تحتل شعبا آخر وتصادر حقه في الحرية وتقرير المصير - وتعلن ذلك بكل وقاحة باعتباره إجماعا وطنيا - وتتنكر لكل الاتفاقات وترفض المبادرات والنصائح بضرورة الذهاب إلى تسوية حقيقية مع الشعب الفلسطيني، إنما تعلن بوضوح ما بعده وضوح أن "اليهودية" المسيحانية والقومية والتوراتية والحاخامية هي التي تتحكم في القرار السياسي والأمني والاعلامي والقضائي؛ ولأن فعل الاحتلال - بما هو صورة بشعة للتعدي على القوانين الإنسانية والدينية والدولية - لا يضر فقط بأولئك الذين يقع عليهم فعل الاحتلال، بل يلحق بالمحتل أيضا شروره وآثامه وآثاره، فإسرائيل التي لم تستطع ولم ترغب أيضا بالوصول إلى حل مرضٍ مع الشعب الفلسطيني، لم تستطع أيضا أن تصل إلى صياغات سياسية ومجتمعية مرضية مع طوائفها وأحزابها وقادتها المختلفين، فإسرائيل لا تستطيع أن تحافظ على التوازن الدقيق الفاعل بين ما يسمى بالنهج الديمقراطي والمفهوم المدني والأفكار الصهيونية، حيث تستطيع إسرائيل أن تضحي بكل شيء من أجل الوهم الكبير بالاحتفاظ بالأرض وإقامة دولة يهودية توراتية دون الحاجة إلى تحقيق الديمقراطية أو الحفاظ على الحقوق المدنية أو حتى الحفاظ على مبادئ الصهيونية العلمانية التي تتهاوى قلاعها يوما بعد يوم، ودون التوصل إلى تسوية تاريخية مع الشعب الفلسطيني.
بالنسبة لإسرائيل فإنها تبحث عن التسوية مع التاريخ ذاته، بمعنى أن إقامة دولة يهودية هي فكرة مسيحانية تعمل من أجلها كل أذرع دولة إسرائيل، وهذا - ضمن أمور أخرى - يفسر لماذا تحول المستوطنون من هامش الحياة السياسية والاجتماعية الإسرائيلية إلى مركزها.
والمسيحانية هذه لا تعترف بالديمقراطية ولا المساواة بين البشر ولا حتى مؤسسات الدولة الحديثة مثل القضاء والإعلام والمراكز الأكاديمية، وكذلك فكرة المواطنة.
المسيحانية هذه تؤمن بالحق الإلهي الموهوم الذي يجمد الزمن ويفرق بين الناس ويميز بينهم، وهو ما يخالف تفاؤل وسذاجة وثيقة طبرية التي ادعت أن إسرائيل محبة للسلام.
نحن أمام إسرائيل جديدة تعيد تركيب وتعريف نفسها من جديد، وتطلب من الشعب الفلسطيني بالذات أن يعترف بها كدولة يهودية - وفي هذا ما يثير السخرية حقاً - ولأنها تستنيم إلى هذا التعريف، فإن المعسكر اليميني القومي والعلماني والديني والطائفي يتضخم أكثر فأكثر بسبب رغبته في اختطاف مؤسسات الدولة لصالحه، وحتى تتحول هذه المؤسسات، بما فيها الجيش الإسرائيلي، إلى خدمة الأهداف التوراتية الأخيرة بإقامة دولة الرب الموعودة.
ما علاقة ذلك بالانتخابات التي ستجري بعد أسابيع، والجواب هو كل العلاقة، إذ ليس هناك فروق ذات معنى بين الأحزاب اليهودية فيما يخص العلاقة مع الشعب الفلسطيني الذي يجمع هؤلاء على إقصاء المواطنين العرب من المشهد والقرار السياسي، وإذا تم استيعابهم فهو على مبدأ العربي الطيب الناعم والمؤمن بأهداف الصهيونية التوراتية أيضا، ويجمع هؤلاء على إدامة الاحتلال ومنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في المصير والسيادة والكرامة.
ولأن مستوى وكاريزما القيادات اليهودية انخفضت كثيرا، فقد تحول هؤلاء إلى خدم لدى الجماعات الأكثر تطرفا ومسيحانية، وهم – أي القادة - يختارون أسلم الطرق وأقلها ضررا بالنسبة لهم، ولهذا لا يجدون أمامهم سوى استخدام القوة والتدمير وإدارة الظهر لكل تسوية مع الشعب الفلسطيني، وإن إخوتنا في مناطق 48 وبغياب تسوية سياسية يرضى عنها الشعب الفلسطيني سيظلون معلقين في منطقة من الشد والجذب في كيفية التعامل مع دولة تتحول أكثر فأكثر إلى يهودية تقصي من المشهد كل ما هو غير يهودي، وتقوم فعليا بالمس بالحقوق المدنية للمواطنين العرب داخل مناطق 1948.
سيبقى شعبنا في مناطق 1948 مشغولا بمسألة حجمهم السياسي وعلاقتهم بدولة تتنكر لشعبهم وحقوقهم ووجودهم، ولا ننسى بهذا الصدد أن فكرة الترانسفير أو التبادل السكاني ما تزال مطروحة في الوعي اليهودي حتى لدى أحزاب علمانية تدعي الحداثة والمواطنة.
برأيي إن الديمقراطية - بالمفهوم الغربي والتقليدي للكلمة - لا تمارس في إسرائيل بحجج كثيرة واهية أهمها الأفكار المتداولة حول الحق الإلهي والارتباط العضوي بالأرض وعدم أحقية الفلسطيني بأرضه وتاريخه، ولكن ذلك لا يعمينا عن أن كل ذلك إنما هو بسبب إحساس إسرائيل بقوتها العسكرية والدعم اللانهائي من الإمبريالية الغربية التي تعتبرها أحد مخالبها العسكرية والأمنية في المنطقة، وكذلك بسبب تفكك الإقليم العربي وتنازله عن كل مواقفه السابقة، إلى درجة عقد تحالفات أمنية مع إسرائيل التي لم تتزحزح عن مواقفها أو مرابض دباباتها قيد أنملة.
إسرائيل – برأيي - لا تحتاج الديمقراطية، فديموقراطيتها التي تمارسها بالأسلوب الإسرائيلي إنما هي وسيلة أخرى من وسائل تكريس الاستيطان وتأبيد الاحتلال وأداة أخرى من أدوات التهرب من أية اتفاقية تم عقدها مع أي طرف.
الديمقراطية بالأسلوب الإسرائيلي أدت فيما أدت إليه إلى إحساس كل الجماعات والطوائف والأحزاب في إسرائيل إلى أنها تستطيع اختطافها وتفسيرها لصالحها، وهذا هو أحد أهم ملامح إسرائيل الجديدة التي من الممكن جدا أن يتمكن المتطرفون - قوميين وحريديم - من قيادة إسرائيل نحو مصير غير متوقع.