ما بعد بعد "ترسيم السلام" بين "حزب الله" وإسرائيل!
لن يكون حدثا عاديا، إنهاء حقبة "ملتهبة" من الصراع العربي الإسرائيلي، الذي "تقزم" لينتهي بين إسرائيل و "حزب الله" بالنيابة عن إيران، بطريقة ملتوية لكنها مكشوفة، عبر توقيع على ما سُمي "خجلا" بالاتفاق، (تهربا من صفة المعاهدة التي تفترض بردا وسلاما مع إسرائيل) على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وما اصطلح "حزب الله" على تسميته ب"العدو الصهيوني الغاصب".
يسير ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل برعاية أميركية، بخطوات ثابتة نحو التوقيع، مترافقة مع مواقف تصدر عن قيادات في "حزب الله"، تُدرج "الترسيم" في سياق "الإنجاز التاريخي" و"الانتصار الثالث للحزب، بعد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000 وحرب العام 2006.
وتكمن أهمية موقف "حزب الله" على هذا الصعيد، أن الحزب دعا على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله، إلى الاستعداد للاحتفالات بعد إقرار الترسيم قانونيا، لينقلب على توصيفه التقليدي للوسيط الأميركي أموس هوكستين "الوسيط غير النزيه"، لصالح توصيف "الوسيط الدولي".
وهذا مؤشر على صعيد العلاقة التفاوضية بين "حزب الله" والجانب الأمريكي، فهوكستين كان يعلم، أن التفاوض مع لبنان بشأن ترسيم الحدود البحرية، كان يجري مع "حزب الله"، وأن نائب رئيس مجلس النواب إلياس أبو صعب المكلف رسميا بالتفاوض مع الوسيط الأميركي، يتولى في الواقع نقل الرسائل المتبادلة بين الوسيط الأميركي والحزب.
وتزامنا مع موافقة لبنان على الصيغة الأخيرة للاتفاق، أسقط نصر الله صفة غير النزيه عن هوكستين، علما أنّ "حزب الله" كان يمكن أن يتحفظ على الاتفاق، من دون أن يعرقله ويستمر في تظهير موقفه من الوسيط الأمريكي فضلا عن موقفه "المبدئي" حيال عدم الاعتراف بحدود "الكيان الصهيوني".
انتقادات عنيفة وجهها خبراء في شأن ترسيم الحدود، وعلى رأسهم الرئيس السابق للوفد اللبناني المفاوض العميد خليل ياسين، والمؤرخ عصام خليفة، وغيرهم الذين رأوا أن لبنان قدم تنازلات غير مبررة، إلى حد اتهام خليفة للرؤساء الثلاثة: ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي، بـ"الخيانة العظمى". وبدوره، اعتبر العميد ياسين أن هذا الاتفاق تضمن تنازلات خطيرة أبعد من اتفاق 17 أيار بين لبنان وإسرائيل، الملغى بتهمة التفريط بالحقوق والاستسلام وأقرّ للبنان بالحدود البحرية بما يتجاوز خط الترسيم 29.
وما يعزز من هذه الاتهامات، عدم التناسب بين وصف الاتفاق بـ"الإنجاز الكبير"، ورفض المسؤولين اللبنانيين إرسال مسوّدة الاتفاق لاحقا إلى مجلس النواب، بذريعة أن ما جرى ليس معاهدة ولا اتفاقا، بل هو مجرد تبادل وثائق عبر الأمم المتحدة، بحسب ما صرح رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وأكد عليه رئيس مجلس النواب نبيه بري.
المطالعات الدستورية والقانونية (نقيب المحامين السابق والنائب الحالي ملحم خلف، الدكتور عصام خليفة، الدكتور أنطوان مسرّة وغيرهم من الخبراء الدستوريين) أدرجت اتفاق ترسيم الحدود البحرية ضمن المعاهدات الدولية، باعتباره قضية تتصل بترسيم حدود الدولة أولا، وتترتب عليه التزامات مالية ثانيا، لذا لا بد من إقراره في مجلس النواب.
بعدٌ آخر في هذا الاتفاق، يتجاوز الجوانب المتصلة بالتراجع اللبناني عن خط الـ 29 الى الخط 23، أي التنازل عن حق دولة لبنان بحقل كاريش، أو بحق التعويض لها ماليا من حقوق يقرّها قانون البحار، بل رضخ المفاوض اللبناني لمطلب تعويض إسرائيل عن حصة غير مبررة لها من حقل قانا، تدفع عبر شركة توتال الفرنسية… باختصار بدل أن تنال دولة لبنان تعويضا عن استحواذ اسرائيل على كاريش، قامت بتعويض إسرائيل عن حصة مما يسمى حقل قانا.
خلاصة الاتفاق انطلاقا مما تسرب منه، وما أعلن عنه بشكل غير رسمي، تشي أن لبنان يدخل مرحلة جديدة، على مستوى تفاهمات الغاز في شرق المتوسط، فالاتفاق أقرّ وجود ضمانات أمنية بين الطرفين، لضمان استقرار عملية الاستكشاف والتنقيب والاستخراج، للموارد النفطية والغاز لدى الجانبين الإسرائيلي واللبناني، وهذا الالتزام لا يمكن للدولة اللبنانية أن تسلم به، من دون أن يكون "حزب الله" هو الذي قدم هذه الضمانات، سواء لتل أبيب أو واشنطن، وهو ما يرجح أن طهران قدمت على طاولة التفاوض غير المباشر ورقة الضمانات، وأظهرت ببراعة قدرتها على إنجاز تفاهمات مع الأميركيين والإسرائيليين، وفرضت في هذه اللحظة الدولية المشتعلة من أوكرانيا إلى أوروبا، أنها الطرف القادر على تسيير التفاهمات كما على عرقلتها في الشرق الأوسط.
هذه الرسالة الصريحة، أظهرت حتى الآن كفاءة السياسة الإيرانية في مقاربة المصالح الأمريكية ومتطلباتها، من دون أن يؤدي ذلك إلى أي ارتدادات يمكن أن تهدد أمن الطاقة النفطية أو الغازية في شرق المتوسط.
لكن يبقى السؤال، ماذا حققت إيران وذراعها القوي في لبنان من خلال هذا الاتفاق؟ الثابت أن نجاح الاتفاق وتنفيذه، سيلمع صورة "حزب الله" كطرف قابل للتفاهم مع نظام المصالح الدولي، وهذا ما عززته أيضا، قدرة الحزب على توفير الاستقرار الفعلي على الحدود الشمالية لإسرائيل، منذ أكثر من عقد ونصف.
وبالتالي، ستشتد عمليا قبضة "حزب الله" على لبنان وتستقر نسبيا سيطرة إيران على لبنان، إذ أن نجاح التجربة اللبنانية على هذا الصعيد، سيعطي دفعا إيجابيا للتعامل الأمريكي مع النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما يمكن تلمسه في عودة الفريق الإيراني إلى الحكم في العراق، وفي إزالة العقبات أمام تدفق النفط الإيراني نحو أوروبا، ورهان إيران على ضمان شرعية دولية لنفوذها في سوريا.
اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل، يمكن إدراجه في سياق رسائل الاختبار الجدية بين الأطراف المعنية، وإن كان لبنان الغارق في أزماته المستفحلة، سيبقى عاجزا عن التقاط الفرص الدولية والاقليمية، رغم أنها مشوبة بالغبن، لكن ذلك لا يقلل من شأن ترقب الديناميات التي يمكن أن تنشأ مع إقرار الترسيم، بمعنى أن التحديات الاقتصادية والمالية وكل ما يتصل بهما من أزمات، سيفرض أولويات جديدة غير الأولوية العسكرية.
الأرجح أن دوامة الانهيار التي يعيشها لبنان اليوم، باتت تتطلب "انقلابا" في مقاربة الأزمات، يرى البعض أن اتفاق الترسيم قد يكون أبرز مؤشر له، فيما اللبنانيون يتحرقون للوعة العيش على جسر الانتظار!