البحث العلميّ والتكنولوجيّ في مواجهة التحدّيات العالميّة - بين العمى والبصيرة
حين كتب جوزيه ساراماغو في العام 1995 روايته الشهيرة " العمى"، التي تتحدّث عن إصابة مدينة كاملة بوباء يؤدّي إلى فقدان بصر أفرادها، ثمّ إدخال المصابين الى حجر صحّيّ، لا اعتقد أنّه كان يفكّر، أو قد فكّر يومًا، بأنّ "فيروس كورونا" سيجتاح كوكبنا، الأمر الّذي سيجبر العالم بأسره على الدخول في حَجر مماثل ستكون تداعياته كبيرة على كلّ فردٍ منّا.
لكن ما هو مؤكد أنّ ساراماغو كان قد سمع عن أوبئة عديدة حصدت أرواح الملايين، كما حصل العام 1918 حين فتك فيروس الأنفلونزا من نوع (H1N1) بالعالم، وهو الذي يُعتبر أصعب وباء شهده التّاريخ الحديث، إذ أدّى إلى أكثر من 50 مليون حالة وفاة. ومن المؤكّد أنّه سمع أيضًا عن ظهور فيروس HIV العام 1981، والذي يُسبب نقصًا في المناعة المكتسبة (AIDS) من خلال مهاجمة خلايا جهاز المناعة، وأودى حتّى الاّن بحياة أكثر من 32 مليون إنسان من دول مختلفة، وخاصة من القارة الأفريقية. لعلّ في كلّ ذلك دروس وعبر. فما دمنا نعيش على هذا الكوكب سنكون دائمًا في حالة مواجهة مع تحدّيات عديدة، كما عاش أسلافنا وكما سيعيش من يأتي بعدنا.
في تشرين الثاني من العام 2022 وصل تعداد سّكان العالم إلى 8 مليارات نسمة. ووفق المعطيات الحاليّة، سيضاعف هذا العدد نفسه كلّ خمسين عامًا. كانت الأفكار السّابقة، مثل فكرة "المالتوسية" (نسبة إلى مؤسّسها توماس روبرت مالتوس، عام 1798)، تشير إلى أنّ مثل هذا التزايد سيؤدّى حتمًا الى المجاعة وهجرة السّكان ومشاكل أخرى. وقد انبثقت عن ذلك أفكار عديدة حول ضرورة اتّخاذ خطوات صارمة من أجل السيطرة على النموّ البشريّ؛ لأنّه لن يكون بمقدور التطوّر التكنولوجيّ والعلميّ توفير حلول لـ "مصيدة السّكان". وعليه، سيعود الإنسان إلى مستواه الأصليّ من حيث قلّة الدّخل والموارد. وبالرّغم من كلّ هذه النظريّات المتشائمة الّتي سيطرت على القرنيّن السابقين، ومع ازدياد عدد السكان بنسبة 1000%، نرى أنّ مستوى حياة الفرد قد تحسّن ومعدّل سنوات حياته قد ازداد، إضافة إلى ارتفاع الناتج العامّ للعديدِ من الدّول والأمور الأخرى، على عكس ما توقعته تلك النظريات.
ورغم هذه النظرة الإيجابيّة، إلّا أننا نرى ونسمع بوضوح ما يتعلق بمجابهة العالم لتحدّيّات جمّة على عدة أصعدة. قد تبدو هذه التحديّات منفصلة ظاهريًّا لكن جمعيها متشابكة في الحقيقة، لأنّ حلّ مشكلة معيّنة سيساعد في حلّ الأخرى.
من أبرز هذه التحديات:
الطاقة: ما تعيشه دول عديدة في أوروبا اليوم من نقص في الغاز الطبيعيّ بسبب الحرب الروسيّة - الأوكرانيّة هو مثال واضح على مشكلة الطاقة. فمعظم الطاقة العالميّة المستهلكة مصدرها الوقود الحفريّ كالفحم الحجريّ، الغاز الطبيعيّ والنّفط؛ وهي مصادر غير مستدامة وستنقص بشكل كبير خلال العقود القادمة، وخاصّة مع ازدياد الطلب على الطاقة وسرعة النموّ الاقتصادي.
الموادّ الخامّ: يمكن القول إنّ كلّ مجال صناعيّ كصناعة السيّارات، الشاشات، الألواح الشمسيّة، وعدد لا نهائيّ من المنتوجات الأخرى، يعتمد على معادن مثل الليثيوم، النيكل، البلاتين، السيلينيوم وغيرها؛ وهي معادن مستخرجة من مصادر طبيعيّة آخذة في النفاد، إضافة إلى أنها - بطبيعتها - غير موزّعة بشكل متساوٍ في المناطق المختلفة.
المياه: %3 فقط من المياه الموجودة على سطح الكرة الأرضيّة تعتبر صالحة للشّرب وللاستعمالات اليوميّة. وتوزيعها الحاليّ يجعل أكثر من %80 من سكّان الأرض يقطنون في مناطق مهدّدة بتناقصها.
الغذاء: يعاني عدد كبير من الدول من نقص في مياه الريّ التي تحتاجها الأراضي الزراعيّة لتوفير المحاصيل اللّازمة لغذائها. وبالرّغم من أنّ التقارير تشير إلى أنّ المنتوجات الغذائيّة كافية لمتطلّبات العالم، إلّا أن توزيعها في العالم ليس بالأمر السهل، إذ أنّه متعلّق بأمور عدّة وتغيّرات عالميّة كالتي نشهدها في قضيّة الحبوب الغذائيّة التي أفرزتها الحرب الروسيّة - الأوكرانية.
الصّحّة: على الرّغم من أنّ صحّة الأفراد في العديد من الدول قد تحسّنت خلال العقود السّابقة، إلا أن بعض الأمراض يتطور بشكل مفاجئ، كما ذكرت أعلاه، إضافة إلى التغيّر في مدى خطورة المشاكل الصحيّة المعروفة. كلّ هذا آخذ في التغيّر بسبب الشيخوخة، نوع غذائنا والتلّوث البيئيّ.
الهواء: تلوّث الهواء المتزايد بسبب ازدياد انبعاث ثاني أكسيد الكربون وغازات ضارّة أخرى، يؤثّر بشكل واضح على حامضيّة المحيطات والتربة وبالتالي على الكثير من الكائنات الحيّة وصحّة الأفراد وتغيّر المناخ، وهو ما بتنا نشهد آثاره الهدّامة على مناطق عديدة.
رغم هذه الصورة القاتمة، إلا أنّ جميع هذه التحدّيات يمكن مواجهتها وحلّها فقط من خلال تطوير تكنولوجيا خاصّة وتطبيق المعرفة المتراكمة لتحقيق الأهداف المرجوّة.
من الجدير ذكره، أنّه لا يمكن أن نتوقّع ماهيّة هذه الحلول وأنواعها، لأنّه من غير الممكن معرفة نتائج البحث العلميّ بشكل مسبق. على سبيل المثال، كان من الصعب أن نتوقّع أنّه سيتم تطوير تطعيم لفيروس كورونا خلال عام واحد منذ بدء انتشاره. لكنّ ما وصل إليه الإنسان من تطوّر وتقدّم في جميع المجالات، ومن ضمنها المجالات الصحية، كان نتيجة للمعرفة المتراكمة. وهذا، نتيجة للأبحاث العلميّة التي جرت على مدار عشرات السنين.
من اللّافت أيضًا، أنّ المعطيات تشير إلى أنّ المعرفة تزداد بوتيرة أسرع من ازدياد عدد السّكان، إذ يُقدّر أنّ "كمّيّة المعرفة الإنسانيّة" تتضاعف مرتين بمعدّل كلّ سنتين أو أقل! ومن هنا، يُعتبر الازدياد السكّانيّ أمرًا ثانويًا مقارنة مع المعرفة المكتسبة، ممّا يتيح لنا الفرصة لاستعمالها من أجل تحسين أوضاعنا على هذا الكوكب في جميع المجالات. فمثلا، حين نقوم بتوظيف أنجع للطاقة الشمسيّة الهائلة التي تصل إلى كوكبنا ونحوّلها إلى طاقة كهربائيّة، سيتمّ حلّ مشاكل الطاقة بشكل جذري. كذلك ستُحلّ مشاكل أخرى مثل مشكلة نقص المياه، إذ يمكن استعمال الطاقة لتحلية المياه المالحة، مما سيؤثّر بالتالي بشكل كبيرٍ على توفير الغذاء العالميّ.
ما ذُكر أعلاه من تحدّيات، بالفعل، ليس من السهل التغلب عليه ولا نملكُ حلولًا سحريّة. لكن بواسطة البحث العلميّ وتطوير تكنولوجيا خاصّة سيعي الإنسان كيف يواجه هذه التحدّيات.
إلّا أنّ المشكلة الحقيقيّة والأكبر في كلّ ذلك هي اتّساع الهوّة بين المجتمعات المتقدّمة وتلك التي ما زالت تجهل قيمة العلوم والأبحاث وأهمية توفير البيئة الداعمة والموارد الخاصّة لعلمائها. أو بالأحرى، تلك الدول والشعوب التي لن يكون لها دور في كلّ هذه الحلول والأمثلة عليها عديدة، ومنها الدول العربيّة وخاصّة تلك التي لا تتوفّر لديها القدرات المادّيّة والبشريّة من أجل استثمارها في هذه الأبحاث لتأخذ دورًا رياديًّا في هذا التقدّم.
في رواية "العمى" كانت زوجة الطبيب الشخصيّة الوحيدة التي لم تفقد بصرها وقد عملت جاهدة لإعادة تنظيم المجتمع الذي دخل إلى حالة من الفوضى والهلع العارمين، وخصوصًا بسبب النقص في توفير الغذاء. ولعلّ في قولها في نهاية الرواية "لا أعتقد أنّنا عُمينا، بل أعتقد أنّنا عُميان يرَون، بشرٌ عميان يستطيعون أن يروا لكنّهم لا يرَون" قد عبّرت عمّا أراد الكاتب إيصاله حين "استعار" موضوع العمى، إشارة منه إلى العمى الفكريّ، وهو الأصعب والأخطر في حياتنا، ولدى متّخذي القرار في مواجهة التحدّيات الكبرى بشكل خاص.
بروفيسور أشرف إبريق
صاحب كرسي في كاتدرائية "جوردان وأرين تارك" في الكيمياء البيولوجية، محاضر وباحث في كلية الكيمياء في معهد التخنيون- حيفا.