العلاج الجينيّ.. تقنية العصر لمعالجة الأمراض

يولد الإنسان، بطبيعة الحال، وهو يحمل مجموعة من الصفات والأمراض على شكل جينات. تملك هذه الجينات الحمض النووي المسؤول عن خصائص الإنسان الشكلية والوظيفية اللازمة لعمل الجسم وبقائه.  تمثل الشفرة الجينية الخاصة بالشخص دليلًا إرشاديًا يوضح كيفية عمل الجسم. ويُعرف مجال مطابقة الأدوية بالحمض النووي الخاص بالشخص باسم "علم الصيدلة الجيني". العلاج الجيني عبارة عن أي علاج يغير من وظيفة جين معين، وهو أحد العلاجات التي تعلق عليها آمال كبيرة في الطب اليوم، علاج الإنسان بالإنسان. يهدف هذا النوع من العلاجات إلى إتاحة التدخل في الجين وإصلاح ما فيه من أخطاء، مثل الأمراض الوراثية النادرة، عن طريق استبدال الجينات المعطوبة في خلايا المريض بجينات طبيعية سليمة. 

تسمى هذه التقنية المعالجة بإقحام الجين أو المعالجة الجينيَّة الإِقحاميَّة. بإمكان هذه التقنية صناعة جينات طبيعية عن طريق استخدام تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR) وذلك باستخدام عينة من الحمض النَّووي الرِّيبي منزوع الأكسجين الطبيعي (DNA) المتبرَّع فيه من شخص آخر سليم. يمكن أن تعمل العلاجات الجينية بعدة آليات: استبدال الجين المسبب للمرض بنسخة صحية من الجين، تعطيل الجين المسبب للمرض الذي لا يعمل بشكل صحيح، أو عن طريق إدخال جين جديد أو معدل في الجسم للمساعدة في معالجة المرض.

فكيف يتم ذلك؟ تقنية ال- PCR هي طريقة مخبرية مستعملة بشكل كبير في علم الأحياء الجزيئي لإنتاج سريع لمليارات النُسخ من عينة DNA، مما يمكن العلماء من أخذ عينة صغيرة وتضخيمها إلى كميةٍ كبيرة تكفي لدراستها بالتفصيل. ترجع أول تجربة لاستخدام العلاج الجيني إلى عام 1990 عندما قام الطبيبان فرنش أندرسون ومايكل بلاز بمحاولة معالجة طفلة مصابة بمرض عوز المناعة المشترك الشديد بإدخال المورثة المختصة بتقوية جهاز المناعة في جسم الإنسان. حققت التجربة نجاحًا جزئيًا حيث استطاع العلاج تقوية الجهاز المناعي للطفلة بنسبة 40%. أما اليوم فهذه التقنية دارجة في مجال السرطان، وخاصةً سرطان الدم والنخاع، مع احتمالية نجاح أوسع وأكبر بحيث تستعمل عند عدم استجابة الجسم للعلاج التقليدي أو عند ظهور المرض مجددًا بعد الشفاء. أحد الأدوية المصادق عليها من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) هو Abecma الذي هو علاج مناعي واعد للأورام، حيث يتكون من الخلايا التائية (T-Cells) الخاصة في المريض ويستخدم للبالغين الذين تلقوا ثلاث جرعات علاجية تقليدية سابقة على الأقل.

لا حدود للعلماء وإبداعهم البحثي؛ فقد طوروا إمكانيات عديدة يمكن من خلالها نقل الـ- DNA السليم إلى الخلايا المعطوبة، أهمها:

التعداد الفيروسي:

كما نعلم، وخاصة من تجربتنا الأليمة مع فيروس كورونا، فإن لدى الفيروسات القدرة على نقل مادتها الوراثية بشكل ناجع للأجسام الحية ولدى بعض منها القدرة على إدراج المادَّة الوراثيَّة في الـ- DNA البشري. يتم إدخال الـ- DNA الطبيعي عن طريق تفاعل كيميائي في الفيروس الذي يُعدِي خَلايا الشخص، ممَّا يؤدِّي إلى نقل الـ- DNA إلى نواة هذه الخلايا. ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار المخاوف المترتبة عن هذه التقنية. أحد الاحتمالات هو أن الـ- DNA الجديد قد يفشل في الاندماج داخل الخلايا الجديدة بعدَ فترة من الزمن، ممَّا يؤدِّي إلى عودة ظهور الاضطراب الوراثي الذي قد يسبب انتاج أجسام مضادة للفيروس، مما قد يتسبب في ردة فعل عكسية من جانب الجسم. في سوق الأدوية هنالك علاجان مصادق عليهما تحت إطار تقنية التعداد الفيروسي من قبل الـ- FDA في مجال أمراض العيون؛ Luxturna و zolgensma. الأول لمعالجة البالغين والأطفال الذين يعانون من فقدان البصر بسبب ضمور الشبكة الوراثي، وهو اضطراب وراثي نادر يصيب الشبكية (الغشاء الحساس للضوء في مؤخرة العين). والثاني هو علاج بديل للجينات محدد لعلاج ضمور العضلات الشوكي (SMA) في مرضى الأطفال.

الجسيمات الشحمية: 

هي عبارة عن حويصلات أو أكياس مجهرية تحتوي على الـ -DNA تمتلك خلايا الجسم القدرة على امتصاصها. مع جمالية هذه التقنية، إلا أن هنالك الكثير من التحديات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى الفشل. فمثلًا، لا يحدث امتصاص الجسيمات الشحمية نحو خلايا الشخص، ونتيجة لذلك لا يعمل الجين الجديد على النحو المطلوب أو يفقد الجين الجديد في نهاية المطاف أو تظهر عوارض جانبية لجهاز المناعة مثل الالتهابات أو حتى عدم الاستقرار وفقدان المادة الوراثية في وقت قصير جداً.

تكنولوجيا معاكسات الشفرة:

في هذه التقنية ليس هنالك إدراج أو إقحام للجينات الطبيعيَّة؛ بكل بساطة، هذه التقنية تعطل الجينات الشاذَّة؛ وذلك من خلال ربط الأدوية مع أجزاء محدَّدة من الـ- DNA وهكذا يمكن منع فعالية الجينات المتضرِّرة. هذه التقنية شائعة جداً في الأبحاث ولها مستقبل واعد في معالجة الأمراض النادرة.

التعديل الكيميائي:

بواسطة هذه التقنية بالإمكان زيادة أو تقليل أنشطة بعض الجينات عن طريق تعديل التفاعلاتِ الكيميائية في الخلية والتي تتحكَّم في التَّغبير الجيني. مثلاً، يمكن تعديل تفاعلٍ كيميائي يُسمَّى المَثيَلَة methylation وهو الذي يغير وظيفة الجين ويسبَّب زيادة أو نقصان إنتاج بعض البروتينات، أو إنتاج أنواع مختلفة من البروتينات. 

المعالجة بالزرع:

هذه من أكثر العلاجات تعقيدًا وهي نادرة النجاح. وهي تعتمد على جراحة زرع الأعضاء من خلال تغيير جينات الأعضاء المزروعة لجعلها أكثر توافقاً مع جينات المتلقي، ليصبح متلقي العضو أقل ميلًا لرفض العضو المزروع. وبذلك، قد لا يحتاج هذا المتلقي إلى استعمال العقاقير التي تثبط الجهاز المناعي والتي يمكن أن تكون لها مضاعفات جانبية خطيرة.

إمكانيات العلاج الجيني واعدة للغاية والسماء هي حدود الإبداع الفكري والتطبيقي في الأبحاث. فعند معرفة أن خللاً ما قد أصاب مورثة ما، مسبباً حالة مرضية، فإن استبدالها بمورثة سليمة يمنع حدوث المرض. حاليًا، غالبية العلاجات الجينية تندرج في إطار المرحلة السريرية وقد أظهرت هذه التجارب التي أجريت على أشخاص بعض النجاح في معالجة أمراض وراثية نادرة، لكن لا تزال هنالك حواجز بالغة تعيق سبيل أن يصبح العلاج الجيني شكلًا موثوقًا من الطرق العلاجية، بما في ذلك: إيجاد سبيل موثوق لتوصيل المادة الجينية إلى داخل الخلايا، استهداف الخلايا الصحيحة وتقليل خطر الآثار الجانبية. يبقى العلاج الجيني مجالًا بحثيًا نشطًا وهامًا للغاية يهدف إلى تطوير علاجات فعالة وجديدة لمجموعة متنوعة من الأمراض. ولكن، هذه بداية الأمل لإيجاد حلول لأمراض مستعصية، خاصة وأن العلم في حالة دائمة التطور والنجاح. 

د. رلى مسعود

حاصلة على الدكتوراة في العلوم النانومترية من معهد "التخنيون" وتعمل في شركة Lumenis للأجهزة الطبية

 

شاركونا رأيكن.م