الأحزاب العربية في إسرائيل منذ 1981: توصيات كثيرة ونتائج قليلة

منذ أن تشكلت القائمة المشتركة عام 2015 شهدت الحلبة السياسية العربية داخل إسرائيل نقاشات حول توصية أحزابها على مرشح رئاسة الحكومة وفي مراحل معينة احتدم هذا الجدل حيال هذه المسألة خاصة بعدما أوصت المشتركة بكافة مركباتها على بيني غانتس بعد جولتي انتخابات الكنيست عامي 2019/2020 مرتين وبعدما أوصت على لبيد في 2021 وخيبّت الأمل "حكومة التغيير". في الفترة الأخيرة بات أقطاب تحالف المشتركة النصفية (الجبهة- التغيير) أكثر حذرا في تصريحاتهم، لكنها ورغم الموقف الرافض مبدئيا لذلك تشير بين الكلمات وخلف السطور لدى بعضهم الرغبة بالتوصية على مرشح المعسكر المناهض لنتنياهو. هذا بحال لم يفعلها غانتس مجددا وتحالف مع نتنياهو وبالتالي يجعل الأحزاب العربية كلها غير ذات صلة. التجمع الوطني الديموقراطي وعلى خلفية التجارب المذكورة وغيرها ينأى بنفسه عن موضوع التوصية مؤكدا أنه لا فرق بين ما يسمى يمينا وما يسمى يسارا صهيونيا.

سلة أمان لحكومة رابين: توصية 1992

ضمن محاولات الأوساط والأحزاب العربية تبرير التوصية مرتين، على غانتس ولابيد، قيل إن هناك مرّ وهناك أمر وإن إسقاط بنيامين نتنياهو عن سدة الحكم انطوى على مصلحة فلسطينية (ضم الضفة وصفقة القرن والمحرض الأكبر علينا إلخ) وهذه المقولة ليست جديدة ففي انتخابات الكنيست 1992 جاءت التوصية على رابين من باب: البحث عن "أهون الشرّين" أو من باب الاستجابة لطلب منظمة التحرير الفلسطينية (عشة أوسلو) فقامت الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة برئاسة توفيق زياد (ثلاثة نواب) والحزب الديموقراطي العربي برئاسة النائب الأسبق عبد الوهّاب دراوشة (نائبان) "سلة أمان" لحكومة رابين أو يعرف بـ"الكتلة المانعة" لحمايتها من الانهيار. في 23.06.1992 فاز "الليكود" برئاسة شمير فقط بـ 32 مقعدا فقط مقابل 44 لـ "العمل" برئاسة إسحق رابين فيما فازت الجبهة بثلاثة مقاعد (توفيق زياد وهاشم محاميد وتمار غوجانسكي) وفاز الحزب الديموقراطي العربي بـمقعدين (عبد الوهاب دراوشة وطلب الصانع) بينما فشلت الحركة التقدمية برئاسة المحامي محمد ميعاري في عبور نسبة الحسم(24181صوت) بعدما فشلت مساعي منظمة التحرير (بـإشراف محمود عباس) ومصر في توحيدها مع الحزب الديموقراطي العربي". لاحقا تم الاتفاق بين النواب العرب الخمسة (الجبهة والديموقراطي العربي) وبين حزب "العمل" على منح حكومة رابين"سلة أمان" أو كتلة مانعة" تحول دون تشكيل "الليكود" حكومة، مقابل عدة تفاهمات وذلك بإيعاز سري من منظمة التحرير. في الاتفاق المذكور كما جاء في مذكرات عبد الوهاب دراوشة تعهد الأخير بإلغاء قانون منع اللقاءات مع منظمة التحرير، السعي لتحقيق السلام وتطبيق المساواة تجاه المواطنين العرب ومن ضمنها شطب التمييز في مخصصّات التأمين الوطني بين الأولاد العرب واليهود، وإقامة مؤسسة أكاديمية في الناصرة، والاعتراف بالقرى غير المعترف بها، تخصيص الميزانيات الكافية لرفع شأن التعليم العربي".

ووقع الاتفاق موشيه شاحل عن "العمل" وعبد الوهاب دراوشة وتوفيق زياد عن الجبهة والديموقراطي العربي. عدا ميزانيات للحكم المحلي العربي ومخصصات التأمين للأولاد ...كما هو الحال مع توصية"الموحدة" على لابيد وتجربتها مع "حكومة التغيير" لم تحقّق توصية 1992 تغييرات جوهرية في السياسات الإسرائيلية على مستوى المساواة في المواطنة.

توصيات تاريخية: انتخابات الكنيست العاشرة 1981

ولكن يتضح أن مشاركة الأحزاب العربية في عملية التوصيات على مرشحي رئاسة الحكومة في إسرائيل قد بدأت قبل انتخابات 1992، بل في مرحلة مبكّرة أكثر، قبل "الكتلة المانعة" مع حكومة رابين وكانت المرة الأولى التي تمت فيها التوصية على مرشح لرئاسة الحكومة من المعسكر المدعو "اليسار الصهيوني" من أجل حسم طريق "معسكر اليمين"، قد وقعت في انتخابات الكنيست العاشرة في 30.06.1981 وهي الانتخابات الأولى بعد "الانقلاب" الكبير في انتخابات الكنيست التاسعة في 17.05.1977. في انتخابات 1977 خسر حزب "العمل" برئاسة شمعون بيريز مع 32 مقعدا("مباي"/"المعراخ") الحكم لصالح "الليكود" منذ قامت إسرائيل غداة النكبة وتحديدا منذ انتخابات الكنيست الأولى في 1949. في انتخابات الكنيست العاشرة في 30.06.1981 تعادلت قوة "الليكود" برئاسة مناحم بيغن (48 مقعدا) مع حزب "المعراخ" برئاسة شيمعون بيريز (47 مقعدا) وكانت كتلة الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة برئاسة مائير فلنر (الكتلة العربية الوحيدة في الكنيست) قد فازت بـ أربعة مقاعد واحتاج بيريز دعمها في التوصية عليه كـ مرشح رئيسة حكومة مقابل بيغن لدى رئيس الدولة لكن في نهاية المطاف نجح بيغن في تشكيل حكومة.

انتخابات الكنيست الحادية عشرة 1984

وهكذا تكرّرت نتيجة التعادل في انتخابات الكنيست الحادية عشرة في 23.07.1984 حيث حاز "العمل" (المعراخ) برئاسة شمعون بيريز على 44 مقعدا و"الليكود" برئاسة إسحق شمير على 41 مقعدا ولم يكن من السهل على كل من الحزبين/المعسكرين تشكيل حكومة بدون الآخر. وفي الأول من آب/أغسطس 1984 استقبل رئيس إسرائيل الراحل حاييم هرتسوغ (والد رئيس الدولة الحالي) ممثلي الأحزاب من أجل سماع توصياتهم على مرشحهم لتشكيل الحكومة. في ذاك اليوم استقبل هرتسوغ وفدا عن الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة ضم النواب مئير فلنر، توفيق طوبي وتمار غوجانسكي وسادت في اللقاء أجواء ودية. افتتح الحديث عن الجبهة مئير فلنر وقال إنه من أجل الدقة سيقرأ عن الورق فاستهل الحديث بالإشارة لوجود إسرائيل في مأزق سياسي اقتصادي واجتماعي وأخلاقي نتيجة عدة أسباب أهمها استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية منذ 1967 علاوة على حرب لبنان 1982. مؤكدا أن تحقيق السلام والأمن والازدهار يحتاج لـ تغيير السياسات الإسرائيلية السائدة أوضح فلنر أنه على خلفية نتائج الانتخابات ومن أجل منع تشكيل حكومة برئاسة أو مشاركة "الليكود" فإن الجبهة تقترح على رئيس الدولة تكليف أحد قادة "المعراخ".

لغة غير مباشرة

في نهاية الحديث يتبّين أن الجبهة كانت تفضّل ألا تقولها صراحة ومباشرة أنها توصي على بيريز أو على مرشح آخر من "المعراخ وإنها تستصعب التوصية المباشرة العينية وتشدد على السياق السياسي الذي دفعها لموقفها هنا فيعود هرتسوغ ويسأل: إن كنت قد فهمتكم بشكل صحيح فأنتم تبلغوني الآن بأنكم تعارضون بشدة حكومة بقيادة "الليكود" وقلتم إنه في الظروف الراهنة أنتم تدعمون بـمرشح "المعراخ"، صحيح؟

توفيق طوبي: “لا ندعم، بل نقترح أو ننصح أن تكلّف في الظروف الراهنة نائبا من "المعراخ" ونحن سنتطرق للحكومة عند إقامتها".

حاييم هرتسوغ:"أقرأ على مسامعكم:"في الظروف المعطاة كنتيجة للانتخابات ومن أجل منع إقامة حكومة ليكود أو معراخ – ليكود فنحن نقترح على رئيس الدولة إحالة مهمة تركيب الحكومة على عضو كنيست من "المعراخ".

توفيق طوبي:"بذلك نحن واضحون"

الحركة التقدمية للسلام

في اليوم التالي التقى رئيس الدولة حاييم هرتسوغ ضمن اللقاءات مع الأحزاب مع وفد الحركة التقدمية للسلام : النائب محمد ميعاري،المطران رياح أبو العسل،الناشط السياسي والكاتب أوري أفنيري والسياسي حاييم هنغبي.ويستدل من محاضر هذا اللقاء التاريخي النادر كم ابتعدت فكرة الشراكة العربية اليهودية اليوم عما كانت عليه بالنظر للمضامين والمصطلحات ومجمل اللغة المعتمدة من قبل العرب واليهود في اللقاء مع رئيس الدولة (لقاء رئيس إسرائيل مع الحركة التقدمية وكذلك اللقاء مع الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة) وقد سادت أجواء سياسية مختلفة وقتذاك مقارنة بـاليوم. استهل الحديث عن التقدمية رئيسها محمد ميعاري:"اسمح لي بداية أن أسجّل ملاحظة. أشكرك شكرا كبيرا على مواقف معينة تهتم فيها بمشاعر مواطني الدولة. نحن 700 ألف مواطن عربي يقيمون في إسرائيل اليوم ويبحثون عن مكانهم وعن تأثيرهم. هم مدركون تماما أن النضال من أجل المساواة والسلام العادل يمكن أن ينجح فقط من خلال نضال مشترك. إذا لعب عربي بمفرده ويهودي لعب بمفرده فهل تفضي اللعبة لـشيء، لكن نحن سنعيش متباعدين. لذلك اخترنا الطريق الأفضل في الدولة. عندما يستطيع المواطنون عربا ويهودا صياغة برنامج معين وتعريف نقاط معينة والعمل بالمشاركة الصادقة والمتساوية وسط احترام متبادل – نعتقد أن هذه الطريق الأفضل. وأضاف ميعاري في مديح الشراكة العربية اليهودية"أكثر من ذلك، نحن نعطي إشارة الطريق عربا ويهودا كل منا فخور بقوميته ونستطيع إيجاد لغة مشتركة وحياة مشتركة بغية تحقيق الغاية من الحياة. هذه هي الرسالة".

نحن ضد الليكود

وبما يتعلق بالتوصية قال ميعاري ما يتطابق مع موقف الجبهة من ناحية الموقف من حكومة ليكود أو حكومة وحدة وطنية ومن ناحية التوصية:"بما يتعلق بـموقفنا فنحن نتابع التطورات. وفق برنامجنا ومقابل الوضع الذي نحن قبالته أعتقد أننا نصرح بشكل قاطع أننا ضد حكومة ليكود. العنصرية الحالية نبتت في هذه الأجواء ونريد أن نضع لها حدا وهكذا بالنسبة لحكومة وحدة وطنية. هناك خيار ثالث واقترح أن يتحدث عنه أوري أفنيري".

أوري أفنيري:"على خلفية ما قال محمد ميعاري فإن الخيار الوحيد بعد معارضتنا لحكومة ليكود أو حكومة وحدة هو إقامة حكومة أقلية مكونة من القوى التي نعرفّها كقوى تقدمية في الدولة".
رئيس الدولة:"لا أريد الدخول في موضوع خطوط السياسات فهذا خارج نطاق مسؤوليتي. أفهم أنكم توصون أمامي بـ تكليف شيمعون بيريز بتشكيل حكومة،إن كان ذلك حكومة أقلية أم أغلبية.
أوري أفنيري:"نحن نتوقع أن يقوم بذلك سيادة الرئيس".

محمد ميعاري:"الفارق بين برنامج حركتنا وبين برنامج حزب المعراخ كبير ولذا لا نستطيع المشاركة في الائتلاف ولا دعمه. هذه حقيقة لكننا ضد الليكود بكل الظروف مثلما نعارض حكومة وحدة وطنية".

حكومة وحدة وطنية

في نهاية المطاف وبخلاف رغبة الحزبين العربيين (الجبهة والتقدمية) تمخضت مفاوضات طويلة عن تشكيل حكومة وحدة وطنية بين "المعراخ" وبين "الليكود" بموجبها تولى بيريز رئاسة الحكومة لمدة عامين فيما شغل إسحق شامير منصب نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية وبعد عامين تبادلا الوظيفتين.

انتخابات الكنيست الثانية عشرة 01.11.1988

في 01.11.1988 تمت انتخابات الكنيست الثانية عشرة وكانت خلفيتها الأبرز الانتفاضة الأولى وتبعاتها فيما جاء حزبا "الليكود" و "المعراخ" من حكومة وحدة وطنية برئاسة شمعون بيريز وإسحق شامير بالتناوب بعد تمخض انتخابات 1984 عن نتيجة تعادل بينهما. في انتخابات 1988 فاز "الليكود" برئاسة إسحق شمير بـ 40 مقعدا والمعراخ برئاسة شيمعون بيريز بـ 39 مقعدا مما يعني تكرار نتيجة التعادل بين المعسكرين المتصارعين على الحكم.

في تلك الانتخابات فازت الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة بـأربعة مقاعد (توفيق طوبي وتوفيق زياد وهاشم محاميد وتمار غوجانسكي) والحركة التقدمية للسلام برئاسة محمد ميعاري هبطت من مقعدين إلى مقعد، والحزب الديموقراطي العربي برئاسة عبد الوهاب دراوشة فاز بمقعد واحد وكانت هذه الانتخابات الأولى له ضمن حزب عربي مستقل بعدما استقال من حزب العمل وكافتهم أوصوا على بيريز. لكن ميعاري امتنع خلال حديثه مع رئيس الدولة عن التوصية المباشرة على شيمعون بيريز واعتمد هو الآخر اللغة غير المباشرة.

ما أشبه البارحة باليوم

ولكن رياح الليكود والمعراخ (حزب العمل) جرت بما لا تشتهيه السفن البرلمانية العربية، فبعدما تمّت أوصت ثلاثتها (الجبهة والتقدمية والحزب الديمقراطي العربي) على بيريز، وفضّل "المعراخ" تشكيل حكومة وحدة وطنية مع "الليكود" برئاسة شامير لتقاسم رئاسة الوزراء بـالتناوب، وهذا ما فعله بيني غانتس عام 2020 عندما أوصت عليه المشتركة ففضل التحالف مع الليكود برئاسة نتنياهو.

وديع عواودة

كاتب صحافي ومحلل سياسي فلسطيني

رأيك يهمنا