الأولوية الراهنة للتنظيم الذاتي

كان من الواضح مسبقا وقبل بداية الحملة الانتخابية أن الجماهير العربية الفلسطينية تقف أمام نهاية حقبة صعبة ومتعثّرة، وبداية حقبة مجهولة المعالم، في كل ما يتعلق بالعمل البرلماني في الكنيست وفي مجمل الحركة السياسية. كان الدليل على ذلك هو المنحى الحقيقي للأمور والذي دلّ على مهبّ الريح، وإذ أن المحور الأهم في هذا الصدد كان ما حدث بين "الجبهة" و"التجمع" كونهما يشكلان معا الإطار الأوسع ضمن التيار الوطني الذي يتراجع وزنه النسبي وأثر خطابه في العقد الأخير على الأقل، كما وكان التقارب بينهما واعدا لو أُريد له أن يتطور نحو تحالف أبعد من نطاق الانتخابات الإسرائيلية، لكن ذلك بات بعيد المنال في الوضع الراهن. كما أنّ العزوف الواسع عن المشاركة في الانتخابات سواء السياسي المنظّم منه أم العفوي المزاجي وهو الأوسع قد بات يهدد مجمل التمثيل البرلماني.

لن تأتي البشائر من الطبقة الإسرائيلية السياسية الحاكمة، ولا توجد حالة فلسطينية قادرة على إحداث تحولات في الرأي العام الإسرائيلي كما الانتفاضة الاولى مثلا، كما ستكشف صناديق الاقتراع إذا ما كانت الانتخابات الحالية حاسمة إسرائيليا، أم ستكون دورة أخرى في سلسلة جولات الانتخابات نتاج الأزمة السياسية الإسرائيلية والتي هي ليست بحد ذاتها أزمة دولة. إنها أزمة عمّقها وزن الحضور العربي في الكنيست من خلال القائمة المشتركة والتي عطّلت ميلان الكفة لصالح أقصى اليمين واليمن الفاشي الصهيو-ديني بقيادة بن سموطريتش وبن غفير، بينما نشهد تراجعا في الوزن النوعي العربي البرلماني نتيجة للتحولات الإسرائيلية التي قد تقود إلى نهاية مرحلة تساوي المعسكرات نظرا للتحولات في التيارات الدينية الحريدية باتجاه صهينتها، وهذا يعني مشاركتها الواسعة بالتصويت، كما يشهد الوزن السياسي العربي في الكنيست تراجعا بسبب الحملة الصهيونية الحاكمة طويلة المدى لتشتيته ويتغذّى هذا المنحى من الأداء الإشكالي أمام جماهير الشعب بخلاف الأداء الجيد على مستوى العمل البرلماني. بالرغم من ذلك فإن التحوّلات الإسرائيلية الجارية وسيطرة نخب اليمين الفاشي، يتحمل مسؤوليتها المجتمع الإسرائيلي نفسه، ومن الجائر تحميل فلسطينيي 48 مسؤولية فهم ضحايا مجمل المنظومة وقهرها.

من شأن النتائج أن تكون فارقة فيما يخص الحركة السياسية العربية الفلسطينية وأن تنعكس على وضعية هذا الجمهور، كما وقد تحثّ نحو تغييرات في بنية العمل السياسي وأولوياته واستراتيجياته تطال لجنة المتابعة بصفتها المرجعية الكيانية للحركة السياسية، وفي مجال التنظيم الذاتي للفلسطينيين في الداخل وعلاقته بمجمل شعب فلسطين وقضيته، وتحثّ للعمل على نقل مركز الثقل من عمل الأحزاب الانتخابي للكنيست إلى العمل الشعبي المنظّم. وقد تؤدي في حالة الإخفاق إلى تضعضع مكانة هذه المؤسسات وإحداث شرخ فيها من الصعب التكهن بإمكانات إصلاحه مستقبلا. كما يشهد هذا الجمهور منذ عقد من الزمن تحوّلات متسارعة في النخب وتبدّلها وتغييرات جوهرية في السلوك السياسي والحزبي والجماهيري.

بدأت المشتركة بالانتهاء مع خروج القائمة العربية الموحدة ضمن مشروع سياسي خاص بها، لينكسر الإجماع المتوافق عليه ولتتحول الاصطفافات إلى كتلتين متنافرتين لكلٍّ مشروعها المختلف تماما، ولتنتقل الموحدة إلى الانضمام إلى الائتلاف الاسرائيلي الحاكم، وهو أبعد من أن يكون سوء تفاهم أو خطأ وإنما نهج متكامل قائم على الشراكة في عضوية الائتلاف الصهيوني الحاكم إلا أنها ليست جزءا من الحكم الذي لا يمكن أن يقبلها شريكة في إدارة شؤون الدولة، ولا يزيد جماهير شعبنا قوةً بل يضعفها ويضعف توازنات طريقها الكفاحي الجامع بين القومي واليومي المدني، والمؤكّد على أن إحقاق الحقوق لا يتوفّر بالمطالبة بها وبالإقناع وإنما بقدر ما نناضل من أجلها، وأن لا شيء يقنع إسرائيل أكثر من إرادة الفلسطينيين المنظمة.

كان من الأجدر بالأحزاب المركبة للقائمة المشتركة أن تعلن عن حلّها بالاتفاق أو اعتمادها ضمن وظيفة محددة وأخيرة وهي تجاوُز الانتخابات الحالية واعتبارها انتخابية ليس إلا، وأشدد على مفهوم الاتفاق لأن فيه احتراما لجمهور الهدف الذي وضع ثقته بالمشتركة ودعمها كما لم يدعم إطارا سياسيا من قبل باعتبارها حاملة الأمانة، بينما سدّدت بعثرتها ضربة لهذه الجماهير، وبات الشرخ الحالي هو في داخل التيار الوطني المعني بالانتخابات، والذي لا يزال رغم التراجعات، في موقعٍ متصدّرٍ على مستوى العمل الجماهيري. إنه التيار الوطني الأوسع من أن يمثله حزب أو حركة، وامتحانه هو الصدقية المتآكلة حاليا. ولا أعتقد أنّ هذه البعثرة كانت ابنة لحظتها وقد تبيّن الأيام حقيقة ما جرى على امتداد أسابيع أو أكثر، وقد تندثر هذه الحقيقة في ظل ثقافة اللا-حساب الذاتي.

في مراجعة للتجربة، فقد صاحَبَ نشوء المشتركة ونجاحها الانتخابي خطابين أثبتت الأيام إشكالية كلٍّ منهما؛ "خطاب التأثير" الذي الذي حظي بالكثير من التعرض له نقدا، وخطاب "البناء الذاتي" و "المشروع الاستراتيجي" لتنظيم الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل وتمثيلها في المحافل الدولية من خلال القائمة المشتركة، والذي بخلاف خطاب التأثير كان نوعا من التسليم به دون قراءة قابليته والوهم الذي أحدثه. باعتقادي لم تكن المشتركة يوما مشروعا لتنظيم الفلسطينيين في الداخل ولا عنوانه، وأنه لا مجال لتنظيم الفلسطينيين ضمن اصطفاف انتخابي للكنيست الاسرائيلي. كما بثّ خطابا "التأثير" و"التنظيم الذاتي" الوهمَ مما خلق فائض توقعات تحوّل إلى خيبات منها الحقيقي ومنها ما تمّ البثّ له ضمن منظومة هندسة السلوك السياسي الإسرائيلية التي مع الوقت نرى نتائجها ولا نرى أذرعها تعمل بالمدى القصير. لقد تزامن الخطابان المذكوران مع بلوغ السلوك القائم على النجومية السياسية الفردية ذروته، وزيادة منسوب الشخصنة وإضعاف الحركة السياسية والأحزاب.

من طبيعة الأمور أن تعود الأحزاب مع تفكّك المشتركة إلى ذواتها وإلى هوياتها وأن يعود النقاش السياسي الانتخابي، وللأسف لا أعتقد بوجود نقاش سياسي حقيقي لطرح مشروع سياسي يعتمد على الاجتهادات التي توفرها التعددية السياسية بل انتقل مركز الثقل إلى خطاب العصبية الحزبية الضيقة اللا سياسية والتي لا تبني أفقا سياسيا للجمهور الواسع. ضمن العدائية المندفعة بتنا نشهد خطاب الانتقام و"عليّ وعلى أعدائك يا رب" وهو خطاب تدمير ذاتي لا بناء ذاتي إذا اعتبرنا أن الذات هي شعبنا الفلسطيني. ولو نظرنا إلى مسيرة الأحزاب الثلاثة فلا يوجد سلوك سياسي وصيغ تحالف فيما بينها وتوصيات، والتزام بسقف البند السابع في قانون الانتخابات، والاستفادة من منصات الإعلام الإسرائيلي العدائية، ومن التمويل الأمريكي وصناعة النخب القائمة على الأداء على حساب المواقف، ولرفع نسبة التصويت بين العرب، إلا واعتمدته كل الأحزاب مباشرةً أو من خلال مؤسسات تابعة لها أو مقربة منها. الموقف الوحيد الذي انفردت به القائمة الموحّدة هو دخول الائتلاف الصهيوني الحاكم.

في حياة الشعوب فإن تحويل الأزمات إلى فرص لإحداث انطلاقة هو أمر ممكن، ولا بدّ من التحرّك والسعي لبناء جديد وتنظيم المجتمع بما فيه تعزيز بنية لجنة المتابعة العليا، لتشارك فيه الأحزاب والحركات السياسية المعنية بالانتخابات والمقاطعة لها، وكل الاجتهادات والحراكات والأطر والمؤسسات الأهلية والشعبية والشبابية والمهنية سعيا لتعزيز النهج الكفاحي وضبط الإيقاع الجماعي، ففي شعبنا الطاقات الهائلة.


الصورة: من موقع "لجنة متابعة قضايا الجماهير العربية".

أمير مخول

باحث في مركز تقدم للسياسات

رأيك يهمنا