الديمقراطية، الانتخابات، والمعلومات المضللة
المعلومات المضللة (disinformation) هي أداة ناجعة وغير مكلفة نسبيا للتأثير على الرأي العام وهي باتت تشكل مصدر قلق للدول وللمواطنين على حد سواء لإسقاطاتها الخطيرة على الحياة السياسية وعلى عمل المؤسسات الديمقراطية. يتعارض ترويج المعلومات المضللة مع جوهر الديمقراطية كونه يفسد صنع القرار الديمقراطي في قضايا عامة قد تكون مصيرية، حيث تشمل أضرارها تقويض الثقة في المؤسسات السياسية ووسائل الإعلام، والمس بحق المواطنين في اتخاذ قرارات سياسية بمحض إرادة حرة. كي يتمكن جمهور المواطنين والمواطنات من الاختيار بحرية، من حقهم الانكشاف على جميع الخيارات السياسية المتاحة أمامهم دون أن يتم عرض هذه الخيارات بشكل مضلل. فعرض بعض الخيارات السياسية على الناخبين بطريقة مشوهة، يحول فعل الاختيار من فعل حر إلى فعل مسير. هذا بالتحديد ما تسعى إليه حملات التضليل المرتبطة بالانتخابات الديمقراطية، ألا وهو تحقيق أهداف سياسية بطرق أقل ما يقال عنها إنها مخادعة وغير نزيهة. كما تسعى بعض هذه الحملات إلى إبعاد قطاعات محددة من الناخبين عن صناديق الاقتراع خوفا من تأثيرهم على نتائج الانتخابات بشكل يتعارض مع أهداف الجهة التي تروج لهذه المعلومات.
يفضل كبار الخبراء استخدام مصطلح المعلومات المضللة عوضًا عن مصطلح الأخبار المزيفة (fake news) لأن المصطلح الأخير لا يعكس بالضرورة الطبيعة المعقدة للمعلومات المضللة، والتي تتضمن محتوى ليس "مزيفًا" تمامًا، بل معلومات ملفقة ممزوجة ببعض الحقائق، وممارسات أوسع من مفهوم "الأخبار"، مثل إنشاء حسابات آلية تستخدم لترويج معلومات مضللة وشبكات من المتابعين الوهميين ومقاطع الفيديو المفبركة والميمات (memes) المرئية. هنالك عدة طرق لتأطير المعلومات المضللة. يمكن تأطير المعلومات المضللة بشكل إيجابي (مثل دعم مرشح سياسي معين) أو بشكل سلبي (مثل مهاجمة مرشح سياسي معين). قد تكون الرسائل أيضًا تأجيجية بهدف إثارة القلاقل، أو قد تبدو غير مضرة حين تكون مصممة لإبعاد الجمهور عن متابعة قضية معينة من خلال شغله بقضايا أخرى.
آفة المعلومات المضللة هي مشكلة متعددة الأوجه، ولها أسباب مختلفة. في حين أن الانتشار الواسع للمعلومات المضللة أصبح ممكنا من خلال تطوير وسائل التواصل الرقمية، إلا أن بعض أسباب هذه الآفة يسبق ظهور وسائل التواصل الرقمية. فهذه الآفة تتعلق أيضًا بانعدام الثقافة الديمقراطية لدى الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة بالمجتمع وغياب المهنية لدى وسائل الإعلام.
حملات التضليل التي تستهدف الانتخابات البرلمانية لم تعد تقتصر على الدول الكبرى فحسب، بل بدأت تنتشر على نطاق واسع مستهدفة دول ومجتمعات صغيرة على حد سواء. ويبدو أن هذا النهج قد اخترق مجتمعنا أيضا؛ ففي الحملة الانتخابية الأخيرة لاحظ من تابع المشهد السياسي عن كثب انتشارا لبعض الحملات التي يمكن تصنيفها على أنها معلومات مضللة. على سبيل المثال لا الحصر، تم تعميم خبر كاذب مفاده أن التجمع الوطني الديمقراطي صرح بأنه لن يستأنف للمحكمة العليا إذا تم منع الحزب من المشاركة في الانتخابات من قبل لجنة الانتخابات المركزية وذلك لإحراج الحزب عند توجهه للمحكمة العليا واتهامه بالانتهازية وعدم الثبات على الموقف، أو تعميم رسائل قصيرة في مواقع إخبارية مفادها بأن التصويت للتجمع سيسقط جميع القوائم العربية، أو تعميم استطلاعات مشكوك في مصداقيتها، أو إرسال رسائل تلفونية مجهولة المصدر (تم الكشف عن مصدرها لاحقا) ضد النائب أبو شحادة، أو إنشاء حسابات وهمية لمهاجمة نشطاء حزب معين أو شخصيات عامة تدعمه.
تكمن خطورة هذه الحملات المعلوماتية المضللة في السياق الفلسطيني في الداخل في بث اليأس بين الناس من العمل السياسي والمشاركة السياسية في حقبة زمنية هم في أمس الحاجة إليها، خاصة في ظل توغل اليمين الاستيطاني في الحكم وهيمنته على مفاصل الحكم المركزية في الدولة وتبني قانون أساس: إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، والذي حسم وبشكل سافر التوتر بين يهودية الدولة والمركب الديموقراطي في تعريفها لذاتها لصالح يهوديتها. كما أن فشل تجربة القائمة المشتركة شكل أرضًا خصبة لانتشار هذه الآفة في ظل الاستقطاب السياسي الناتج عن تفكك مركباتها وانحدار مستوى الخطاب الإعلامي للأحزاب العربية. ولا يتمثل فشل مشروع القائمة المشتركة بتفككها وحسب، بل بتحولها لمشروع تنازلات عما يراه العديد من أبناء وبنات المجتمع الفلسطيني ثوابت وطنية، مصحوبًا بطمس منهجي للفروقات الأيديولوجية بين مركباتها بحجة الحفاظ على الوحدة. ولا يخفى على أحد الاستياء الجماهيري الشديد مما آلت إليه تجربة المشتركة والذي أدى إلى عزوف الكثيرين عن السياسة بكافة أشكالها.
هنالك فرق كبير، من وجهة نظر ديمقراطية، بين اختيار مقاطعة الانتخابات البرلمانية من منطلقات عقائدية مدروسة، وبين عزوف الناس عن المشاركة في الانتخابات لأنها فقدت الثقة بجدوى العمل السياسي وبالأحزاب التي تمثلها أو على إثر تخويف الناخبين بحجج واهية مثل الادعاء القائل بأن التصويت لحزب بعينه سيسقط كل القوائم العربية. تجديد ثقة الناس بأهمية المشاركة بالحياة السياسية كان يتطلب فتح نقاش جماهيري عام حول الفرز السياسي الذي نتج عن تفكك المشتركة بين تيار يرى الصراع مع إسرائيل كصراع ضد العنصرية واحتلال الأراضي الفلسطينية عام 67 وبين تيار يعود بالصراع لعام 48 ويرى به صراعا مع جوهر الدولة اليهودية في الأساس. جانب آخر للفرز السياسي بين الأحزاب والذي يتم تجاهله غالبا في نقد تجربة المشتركة هو موقف الأحزاب من قضايا حقوقية داخلية كالمساواة الجندرية والحريات الشخصية. بالتالي، كان على كافة الأحزاب السياسية طرح ونقاش اختلافاتها الأيديولوجية بوضوح وصدق دون أي تغرير بالجمهور لإعادة الاعتبار للسياسة ودورها، لكن بعضها قرر الإنشغال بمناكفات حول أمور جانبية مما ساهم في تفشي هذه الظاهرة إن لم نقل تقبلها. والنتيجة كانت تحول الحملات المعلوماتية المضللة الى وسيلة تأثير "شرعية"، سلبت الجمهور حقه في اتخاذ قرارات سياسية واعية بعيدا عن محاولات السيطرة غير الشرعية.
ليس من المستبعد أن يكون مصدر الحملات التضليلية التي شهدناها في هذه الانتخابات بعض النشطاء الذين قاموا ببث المعلومات المضللة بشكل فردي دون علم أو تنسيق مع قيادة حزبهم، وقد يكون المصدر خارجيا أيضا، لكن كل هذا لا يعفي الأحزاب من مسؤوليتها التصدي لهذا النهج، إذا كانت تؤمن حقيقة بقيم الديمقراطية، من خلال إرسال رسالة واضحة لكوادرها لمنعهم من الإسهام في ترويج معلومات مضللة، بمعزل عن مصدرها، ومقاطعة منصات إعلامية تروج لمثل هذه المعلومات وهذا، للأسف، ما لم نشهده على أرض الواقع. وقد نحتاج لبعض الوقت لفهم ودراسة مدى وعمق الضرر الذي تسببت به حملات التضليل هذه من تخريب للحيز العام السياسي الفلسطيني في الداخل في حقبة مفصلية في تاريخ شعبنا. نآمل أن تكون هذه الانتخابات فاتحة لحوار مجتمعي حقيقي حول ضرورة الالتزام بالحد الادنى من القواعد الأخلاقية لإدارة الصراعات الأيديولوجية بين الأحزاب بما يتماشى مع أسس الديموقراطية وإحترام الجمهور وارادته.
د. سونيا بولس
أستاذة القانون الدولي ومتخصصة في مجال حقوق الإنسان ومحاضرة في كلية القانون والعلاقات الدولية في جامعة "نبريخا – مدريد"