استرحام أبي جورج
قبل قرابة عقد من الزمان وفي إحدى المرّات التي زُرتُ فيها أرشيف الدولة في القدس باحثًا ومنبشًا عن وثائق وأوراق تتعلّق بتاريخ وأحداث وأعلام هذا الوطن، وقعت تحت يدي مجموعة من الوثائق هي في الأحرى رسائل، لم تكن ضمن دوائر اهتمامي آنذاك. لكنّ إحداها لفتت نظري لكونها تلامس معرفتي الشخصيّة لمُرسِلِها. لذا، لا بدَّ، من سرد الحكاية للقارئ حتّى يفقهَ كُنْهَ الرسالة وكونها أكثر من مجرد استرحام.
إنّها رسالة من العام 1948 من السّيّد معين شحبرات صاحب دكّان بقالة في حيّ وادي النسناس بحيفا لفترة طويلة. وَكُنيته "أبو جورج". كان قد أَرسلها إِلى مُدير مكتب الأقلّيّات فور احتلال القوات اليهودية المدينة عام 1948. لم يكن دكانه بعيدًا عن بيتنا سوى 40 مترًا بالكاد. عاصرته لمدّة تجاوزت العقد والنصف من الزمن. منذ مطلع الستينيّات حتّى ما بعد منتصف السبعينيّات من القرن المنصرم.
واستنادًا إلى الرسالة المرفقة فإنّ أبا جورج كان قد رتّب أمر استئجار دكان صغير ليعتاش منه بكرامة هو وعائلته. ذلك بعد أن أتمَّ تجميع منْ تبقّى من عرب المدينة في حيّ وادي النّسناس، وقد أشار بنفسه إلى هذا الأمر. لقد توجّه إِلى مكتبٍ أَسَّسَته وزارة الأقليّات لتدبيرِ أمور العرب في المدينة.
إلى هنا، تبدو الحكاية ضمن حدود المنطقِ لشخصٍ بَقي في مدينته بالرغم من الظروف القاسية والمؤلمة التي مرّت بها المدينة عند سقوطها وتطهيرها عرقيًّا من سكانها الفلسطينيّين الأصليّين. لقد ترتّب عليه استصدار ترخيص تشغيل من بلديّة حيفا ليتمكّن من تشغيل دّكانه، إلاّ أنّ البلديّة وضَعَت أمامه العقبة الأولى وهي إحضار موافقة من دائرة المُؤن. عندما توجّه إلى هذه الدائرة وضعت أمامه العقبة الثانية وهي واجب إحضار موافقة من مدير مكتب وزارة الأَقليّات في حيفا ليتسنّى له تحقيق غايته الرئيسيّة.
فَتوجَّه أَبو جورج برسالته هذه بطريقة الاسترحام طالبًا مُساعدته ليخرج من مأزقه الّذي سيخسره الكثير منَ الأَموال والبضائع جرّاء التزاماته الّتي عقدها مع مزوديه ومُسوقي البضائع في المدينة إنْ لم يجد له حلّا. ليس هذا فحسب، فإنَّ استرحامه يؤكّد أَنّ التّأخير في إتاحة الفُرصة أمامه لفتح دكّانه، حتمًا سيُدمّر مُستقبله الّذي بناه على مشروعه الصّغير هذا في ظلّ الظّروف العصيبة الّتي مَرّت على المدينة وسقوطها بيدِ احتلال جديد لا يعرف الرّحمة ولا الشّفقة، بعد أَنْ سلب ونهب كلّ أَملاك وعقارات أَهل المدينة وسواها من المدن والقُرى الفلسطينيّة الّتي وقعت تحت الاحتلال الاسرائيليّ في عام النكبة 1948، وقام بطرد سكّانها أَصحاب البلاد.
ويُنهي أبو جورج رسالته طالبًا من مدير مكتب الأَقليّات تحكيم ضميره في استرحامه هذا، وهنا ترد المعضلة الكبرى: "الضمير" غائب في قاموس وعُرف الاحتلال. لكن "أشفقت" عليه الدائرة ومنحته إذنا بتشغيل الدكّان الّذي لا يملكه، ليُخفّف عنها بعض مسؤوليّات الحيّ الّذي وضعته قوّات الهاغاناه تحت سيطرتها وقد حوّلته إلى ما يشبه مخيّم للّاجئين ومن ثمّ أحاطته بأسلاك وسياجات ونقاط عبور وتفتيش، وحالت دون خروج أيّ من العَرب الّذين جُمّعوا من كلِّ أحياء المدينة في هذا الحيّ.
اعتقد ابو جورج ان " الضمير الحيّ" لدى المُحتَل المُستَعمِر" هو الذي أتاح له تحقيق حلمه بفتح دكانه.
إلى هنا حكاية أَبي جورج مع السّلطات المحتلّة الجَديدة. لكنّ حكايتي معه بل حكاية عائلتنا لم تكن لها علاقة بوثيقة أو ورقة. كانت علاقة إنسانيّة صرفة. إذ إنّ عائلتي كعائلات كثيرة في الحيّ تعاملت معه، إذ اشترينا حاجاتنا الضروريّة من دكّانه. كانت البضاعة التي يبيعها بمعظمها موادّ غذائيّة ومستلزمات بيتية أخرى. لم نكن نعرف الكماليّات مُطلقًا، فالزمن حتمّ علينا الاكتفاء بالقليل والضّروري لسدّ حاجاتنا الحياتيّة. أحيانا كثيرة كانت والدتي تُرسلني أو تُرسِل أخي مرّتين أو أَربعة مرّات في اليوم إلى الدكّان لإِحضار حاجة معينة. لأَنّ الأَمر مرتبط بساعة وصولها إلى الدكّان. والأَجمل، بل الأكثر بروزًا في شبكة العلاقات بيننا وبينه، أنّنا لم نكن ندفع ثمن الحاجة أَو الأغراض مباشرة إِلاّ مرّة كلّ شهر أَو مرّتين في السنة.
كان عند أبي جورج دفتر كبير كثير الأوراق، خصّص صفحةً لكلّ عائلة تشتري من دكانه. فكان يُسجّل في كلّ مرّة نشتري فيها ثمن البضاعة الّتي نشتريها. هكذا فعلَ مع كلّ الزبائن في الحيّ. كان والدي يُسدّد الدين مَرّة في آخر الشهر، إنْ توفّر ذلك، وإنْ لا فسدّده مرّة كلّ نصفِ سنة، وبوجه خاصّ في عيدَي الميلاد أو الفصح.
اعتاد أبو جورج زيارتنا للمعايدة في هاتَين المناسبتَين، كان والدي يُجهز له المبلغ المطلوب. ويُقدّم أبو جورج جردًا بما اشتريناه بالتفصيل، ومن عادة والدي أنّه لم ينظر إلى هذه ورقة الجرد، لأنّ له ثقة كبيرة بأبي جورج صاحب "الضمير الحيّ"، الّذي لم يزد أو يُنقِص ممّا كان يُسجّله في دفتر ديون الزبائن.
كان محور شبكة ومنظومة العلاقات بيننا مؤسّسًا على عنصرَين اثنَين: "الثقَة" و "الضمير".
كان "ضمير" أبي جورج دينامو العلاقة، لدرجة أَنّه عندما برحنا حيّ وادي النسناس في العام 1976 منتقلين إِلى الحيّ الأَلمانيّ في المدينة ذاتها، استمررْنا لفترة ما بشراء حاجاتنا من دّكانه إِلى أنْ أصبح من الصعب المداومة على ذلك، إثر ازدحام المنطقة بالسيّارات وصعوبة ركنها.
أدار أبو جورج دكّانه قرابة أربعة عقود باجتهاد ومواظبة متميّزة في فتح بابها صباح كلِّ يومٍ قبل شروق الشمس وإغلاقه معِ غروبها.
أبو جورج ودكّانه وعلاقاته الاجتماعيّة مع أهالي الحيّ وعلاقاتهم معه، كلُّها معًا شَكّلت "الضمير الحيّ" لشريحة بشريَّة من شعبنا حكم عليها الزّمان بالبقاء في وطنها شهادة حيّة على العلاقة مع المكان الّذي هوَ لها.