لن نبقى غربا ديار وقبور

حين اكتشفت خرائط غوغل منذ سنوات، استهلكت كل باقات الانترنت بحثا عن "دار سيدي" في حيفا، في وادي الصليب، طلعة "الهادار"، بحسب ما وصفه لي عمي وعماتي الذين ولدوا هناك حتى حفظت الوصف وتفاصيل بيت لم اره الا بعين قلبي.

حين شاهدت مسرحية ٥ شارع عباس لرائدة طه على أحد مسارح بيروت، كدت اختنق بنشيجي لدرجة ان كل من كان حولي من جمهور، اعرفه او لا اعرفه، دعموني بكل ما كان في جيوبهم من مناديل ورقية في تلك الليلة الصيفية عل مطر دموعي يهدأ قليلا. حين انتهت المسرحية، التقيت صدفة أستاذتي في الجامعة التي صدمها منظر وجهي، قلت لها هذه حكايتي في زمن آخر، بيتنا نحن في شارع الجبل، جيران اهل شارع عباس.

الان، حين تصلني الصور والفيديوهات من حيفا، وحين أمارس عادتي شبه اليومية في التسلل عبر خرائط غوغل الى شوارعها التي تغيرت منذ غيابنا، نحن الذين كنا اهل البلاد وسكانها وناس حكاياتها وأهل تفاصيلها، وكانت هي، بلادنا وكل حكاياتنا، أسأل نفسي، أي مدرسة كنت سأرتاد طلبا للعلم؟ أي مقهى كان ليكون مفضلي؟ على اي من ادراجها الكثيرة والجميلة كنت سأحظى بقبلتي الأولى وأين كنت لأداري انكسار قلبي؟

بالنسبة لي حيفا، هي "بيتنا ورا البحر" كما علمتني جدتي منذ بدأت افهم الكلام. جدتي هذه لبنانية من مدينة صور الساحلية في جنوب لبنان. وحين بدأت أخبار فظاعات العصابات الصهيونية تصل إلى مسامع أهل البلاد، قررت مع زوجها ان تزور الأسرة مدينتها الأم ريثما تنجلي الاوضاع، ولم نزل زوارا منذ ٧٥ عاما في مدينة احتضنتنا، ولكنها لم ترقَ لتكون "بيتنا"..

نحن اللاجئون، نعيش حياة تعويضية عن حياتنا في البلاد، أو اقله هكذا أشعر انا وكثر في عائلتي. دوما ما يخطر لنا كيف كانت لتكون حياتنا لو لم تحدث نكبة فلسطين؟ هل كنا لنتزوج نفس الاشخاص؟ لتكبر عائلاتنا نفسها؟ هل كنا لنسكن، بمطلق حريتنا واختياراتنا الواعية في حيفا أو إحدى مدن وقرى فلسطين أو لربما انتقلنا إلى لبنان؟ هل كنا لننخرط في الشأن العام وينفى من نفي ويموت من مات على أمل أن يضم عظامه قبر في البلاد؟ هل وهل وهل وتخنقنا علامات الاستفهام.

يحتفي العالم بالسكان الاصلانيين ويتوقف بعض النقديين عند الفرادة التي خسرها عالمنا اليوم بسبب محو شعوب كاملة عن وجه الأرض بسبب ملاهي الرجل الأبيض ورهاناته التافهة كما ورد إلينا بفخر الغزاة حينا وبخجل المؤرخين احيانا مما اكتشفوا عن فظاعات أسلافهم بالذات في أمريكا الشمالية مثلا...

في كندا يقدمون اعتذارات للسكان الاصلانيين، في دول لاتينية ينتخب منهم رؤساء ما يدرس سرديتهم الحقيقية مقابل سردية الرجل الابيض، اما نحن، فلم يعد يلقى لنا أحد بالا منذ قرر بعض المشتغلين بالسياسة أن زمن النضال قد ولى. ليس ثمة من يعتذر، ولا يطالب بحق العودة ولا يوقف وحش الاستيطان عن قضم ما تبقى من ٢٢% من أرض فلسطين التاريخية..

نحن الذين اتعبنا الدوران في شوارع لم تعرفنا في حيفا وعكا ويافا، والذين انخلعت قلوبنا لما عرفنا ان قرانا الأصلية قد مسحت عن وجه الأرض وسويت بترابها أو تحولت مناطق عسكرية لجيش احتلنا وسبب لنا أشكالا مختلفة من المعاناة، نحن نرفض اصلا فكرة الاعتذار او تمثيل سياسي عمن بقي منا. نحن شعب يريد العدالة الناجحة التي تعيد لاجئيه من منطقة السؤال إلى يقين البلاد وتعيد اسراه من عتمات السجون إلى شمس الحرية، ونريد فلسطين، بذكريات قبل النوم لأطفالنا، بالبحبشة في تفاصيلها في خرائط غوغل وصور الأصحاب، في مواجهة السردية بقوة الحق، في إكرام من دفنوا في مقابر جماعية بأن نقول الحقيقة: قتلهم محتل يحمل مشروعات احلالية ونحن لم ننس، كبر صغارنا "غربا ديار" في مدن ومخيمات ومنافي ومهالك عديدة، ومات كبارنا "غربا قبور" أينما بعثرهم ذل اللجوء ولم ننس.

الصورة: لحي وادي الصليب في حيفا بعد الاحتلال عام 1948. المصدر: Meitar Collection, The Pritzker Family National Photography Collection, The National Library of Israel."

ملاك خالد

صحافية فلسطينية ومحاضرة جامعية حاصلة على ماجستير في التربية من جامعة أكسفورد في بريطانيا ومقيمة في لبنان

شاركونا رأيكن.م