ميتا (فيسبوك)؛ زيف حرية التعبير وطمس الرواية المقدسية

"احذر من إحياء ذكرى الشهداء ونشر صورهم وتمجيدهم، ابتعد عن كلمة (شهيد، أسير، الاحتلال)، عليك بالترفيه والفن، وتجنب السياسة والغم"...كانت هذه وصية حقيقية من مدير إلى محرر في إحدى الوسائل الإعلامية الفلسطينية، التي تتخذ من منصات التواصل الاجتماعيّ منبرا رئيسا لها.

لم يكن ذلك المدير في الواقع شخصا منزوع الوطنية منسلخ الهوية، لكنه وصل إلى تلك القاعدة الذهبية لحماية حسابات مؤسسته على (منصات ميتا) من الحذف، بعد رحلة طويلة من حذف الحسابات الكبيرة وتقييد النشر والحظر والبلاغات، بذريعة "انتهاك معايير المجتمع".

حرية مشوهة

عرفت هذه الذريعة بسياسة محاربة المحتوى الفلسطيني، التي أفرزت حذف صفحات مليونية فلسطينية على منصات ميتا (فيسبوك، إنستجرام، تيك توك) مثل شبكتي القسطل وميدان القدس الإخباريتين في نوفمبر العام الماضي، وحملة تقييد واسعة للحسابات الشخصية وحسابات المؤثرين الذين يتداولون مواضيع سياسية.

في الحقيقة، المواضيع السياسة غير المرغوبة كانت قصة عائلة يهددها الاحتلال بإخلاء بيتها في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، وخبرا لمستوطنين اقتحموا المسجد الأقصى المقدس لدى المسلمين وأدوا صلواتهم داخله، وابنة شهيد رثت والدها الذي أعدمه الاحتلال!

"حين نتصفحه، يسألنا فيسبوك "بم تفكر؟" ونحن نجيب، ونعكس واقعنا عبر منشورات في هذا الفضاء الافتراضي، ألم يُنشأ للتعبير عن الرأي؟"... يتساءل فلسطينيون بسخرية مفندين زيف ادعاء الحرية واحترام الرأي الآخر. ويضيفون"ليست منشوراتنا السلمية هي التي تنتهك المعايير، بل واقع القدس المتمثل بالقتل والهدم والتشريد".

2021 الأسوأ على المحتوى الرقمي الفلسطيني

وخلال عام 2021 وثق مركز "صدى سوشال" أكثر من 600 انتهاك للمحتوى الفلسطيني من قبل شركة ميتا، حيث بررت الأخيرة موقفها باشتباهها "بسلوك منسق وغير صحيح لبعض الحسابات التي تهدف للتلاعب والتأثير على النقاش العام في المنصات الرقمية" وفق تعبيرها. كما وصف المركزُ العامَ المنصرمَ بأنه الأسوأ على المحتوى الفلسطيني الرقمي.

كما صادق الكنيست الإسرائيلي بالقراءة الأولى في بداية يناير الماضي على مشروع قانون يسمح للنيابة العامة بالتوجه للمحكمة الإسرائيلية للمطالبة بحذف مضامين رقمية بحجة أنها تحريضية وتمس أمن الدولة أو الجمهور. كما كشف موقع "إنترسيبت" أن شركة ميتا لديها قوائم سرية يتم حظرها بشكل تلقائي من بينها أسماء لفصائل وشخصيات فلسطينية. علما أن (فيسبوك) يقبل 90% من طلبات الجهات الإسرائيلية الموجهة له بشأن المحتوى والحسابات الفلسطينية.

فيسبوك يحجب القدس

وفي غمرة تقييد المحتوى الفلسطيني وخصوصا المقدسي، انطلقت في نهاية نوفبمبر الماضي حملة إلكترونية تحمل وسم (فيسبوك يحجب القدس)، الذي شهد تفاعلا واسعا وصل إلى 10 ملايين تغريدة نددت بمحاولة تغييب صوت القدس وحجب قضيتها.

استطاعت هذه الحملة لفت النظر لتهميش الرواية الفلسطينية على مواقع التواصل، لكنها لم تستطع وضع حد له، بل على العكس استمر التهميش والانتهاك مع بدء العام الجديد الحالي، الأمر الذي يجدد محاولات البحث عن حلول وبدائل في الفضاء الرقمي.

خفض التقييم، تفعيل الحملات الإلكترونية، المقاطعة...جميعها كانت حلولا نُفذت للضغط على إدارة شركة ميتا لوقف تحيزها الواضح ضد المحتوى الفلسطيني والمقدسي، لكن سعة انتشار (فيسبوك) تحديدا في فلسطين أمست عائقا جديا، يتطلب خطة بديلة مدروسة طويلة الأمد.

متاهة البديل

فإن أرادت شبكة إعلامية ما أن تقاطع منصة الفيسبوك فلن تستطيع الوصول إلى جمهورها المستهدف الأول في فلسطين، الذي يستخدم أفراده هذه المنصة بنسبة 88%. لذلك تضطر إلى البقاء فيها وفق شروط ومعاييرها مع تيقنها وإدراكها لكل ما يحاك ضد المحتوى الفلسطيني.

تحاول الشبكات -المضطرة للتعامل مع فيسبوك- أن توصل صوت القدس قدر الإمكان من خلال تقطيع الكلمات المحظورة وتضليل الخوارزميات، لكن ذلك لا ينجح مع بعض الحسابات التي تتعرض لبلاغ فردي أو يراقب محتواها بشريا بشكل خاص. فتلجأ للتورية اللغوية وعدم نشر المصطلح أو الصورة بشكل صريح، أي استمرار النشر بطريقة ذكية.

يطرح البعض فكرة بناء بديل داعم يوازي منصة فيسبوك قوة وانتشارا، مثل منصة "باز" التي تعد أول منصة تواصل اجتماعي عربي انطلقت عام 2020، لرفض الرقابة على المحتوى والتحيّز للسياسيات الاستعمارية. لكنها بحاجة إلى وقت ودعم من العرب أولا لتستطيع الانتشار والتطور.

تأثير بعيد الأمد

الأكثر إيلاما في هذه القضية، حين تمر ذكرى ارتقاء شهيد ما، ولا تستطيع عائلته إحياء ذكراه عبر منصات التواصل، لأنه "إرهابيّ" بنظر تلك المنصة، والأخطر من ذلك هو تأثير سياسية حجب المحتوى على المستوى البعيد، فتنتهج الحسابات الأكثر تأثيرا-مضطرة- نهج الابتعاد عن المسائل الجدية أو معاناة الإنسان المقدسي، لضمان الحفاظ على وجودها.

مثلا، مرت ذكرى انطلاق هبّة القدس أو انتفاضة السكاكين السادسة دون صدى إعلاميّ لائق على منصات التواصل الاجتماعيّ، خوفا من إحياء ذكرى عشرات الشهداء الذين ارتقوا خلال خلال شهر واحد فقط (أكتوبر 2015). وهذا المثال كفيل بوصف خطورة المشهد المؤدي إلى كي الوعي وتشويه الذاكرة الوطنية المقدسية الفلسطينية.

ورغم الواقع الرقمي القاتم والعنصرية الظاهرة بحق فلسطين وعاصمتها، ما زال لدينا الكثير من الثقة بقوة الرواية الفلسطينية الصادقة وعصيانها على الطمس. يكفي أن نستحضر صورة القدس المتجذرة في عمق التاريخ، القاهرة للغزاة، الزاخرة بالحضارة والتنوع والإدهاش، نستحضرها جيدا ونسأل أنفسنا السؤال التالي:"ما حجم فيسبوك وتوابعه بجانب هذه المدينة الأسطورية المقدسة ليقوى على حجبها؟"


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

شاركونا رأيكن.م