الآثار النفسية للتداول السريع للمعلومات عبر شبكات التواصل الاجتماعي

مع ‌التّطور ‌التاريخي ‌الذي ‌وصلت‌ إليه ‌وسائل‌ التّواصل‌ الإجتماعي‌ ‌بشكل‌ عام، ‌والتي‌ بدأت برسائل تحملها الطّيور من مكان إلى آخر تعكس من خلالها نفسيات الشعوب سواءً فرحًا أو حزنًا حربًا أو سلمًا، وهي‌ كلها حالات‌ صادقة لا‌ يتدخل ‌بها ‌مزاج ‌الشخص ‌الذي ‌يكتبها ‌أو الذي يتلقاها، حتى ‌وصلنا‌ إلى ‌يومنا ‌هذا، اليوم الذي ‌أدى‌ فيه تسارع ‌التّطور ‌التّكنولوجي ‌إلى ‌حدوث ‌طفرة ‌على ‌كافة ‌المستويات‌ العلمية ‌وانطلاق ‌ثورة ‌حقيقية ‌في ‌عالم ‌الاتصال ‌الافتراضي، ‌بحيث ‌انتشرت ‌شبكات ‌التواصل‌ الاجتماعي ‌في ‌أرجاء ‌العالم ‌لتربط‌ العالم ‌كلّه ‌بأجزائه ‌المُترامية ‌وليُصبح ‌أشبه بقرية‌ صغيرة تتحكم هي في إحداثياته ‌أو‌ على‌ الأقل‌ تتدخل ‌في ‌شتى سلوكيات‌ الإنسان فيه ‌وفي نشاطاته ‌المختلفة وعلى مُختلف الأصعدة.

الأهمية البالغة لوسائل التّواصل الإجتماعي في حياة الإنسان بلغت ذروتها حينما أضحت هذه الوسائل هي العنوان الأسرع والأكثر إتاحة لبث المعلومة في كل ما يتعلق بقضايا العصر المتأججة بمنغصات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية، بما في ذلك أثرها الناجم عن نشر المسائل المركومة من الكآبة والقلق والاضطرابات الخاصة بالمساحات النّفسية والمجالات الشخصية.

إذ إن الكم الهائل من المعلومات التي تُعرض على منصات التواصل يوميًا مع تعدد تلك الوسائل تودي بالكثير من المشاركين والمتابعين إلى الولوج في مرحلة من الإغراق المعلوماتي والمعرفي، وعند البعض قد يصل بهم الحال إلى حالة من الضياع الفكري والتشتت الذهني والنفسي والعصبي، وحتى إلى عُسر في هضم هذا الكم المُفرط من المعلومات على اختلاف أنواعها ومضامينها.

إن غزارة المعلومات المُتاحة على منصات التواصل الاجتماعي تعتبر من أبرز السلبيات التي قد يواجهها مستخدمو هذه الوسائل، خاصة إذا ما احتملت هذه المعلومات تبايُنًا واختلافًا في المعنى والمقصد.

بث هذه المعلومات دون التأكد من صحتها أو حتى وإن كانت صحيحة، ولكنها لم تخضع لمعالجة الجهات المُختصة التي تعنى بجُملة تقنيات البث والإعداد قد يكون لها الأثر الكبير على جمهور المتصفحين. هذه التأثيرات تتباين بين شخص وآخر وهي على الأغلب متعلقة بطبيعة الشخصية وبميزاتها الخاصة. فمثلًا، عند الأشخاص المُفرطين في استخدام وسائل التّواصل الاجتماعي، ومنهم من تتراجع مهاراتهم النفسية الاجتماعية نتيجة لإفراطهم في الاستخدام، قد نشهد في تعاملهم مع المضامين المعروضة نوعًا من فقدان المرونة الانفعالية التي لا تتناسب مع النّشر، ولربما أيضًا زيادة في الشعور بالإحباط لقاء الكم الغزير من المعلومات والتي البعض منها إن لم يكن الكثير منها مما لا تروق لهم. هؤلاء هم أكثر الأشخاص عُرضة للإصابة بالمشاكل والاضطرابات النفسية، مثل القلق والاكتئاب خاصة إذا ما تعرضوا لموقف أو صورة أو خبر لا يتماشى مع طموحاتهم أو أهوائهم.

جنبًا إلى جنب، يمكن الحديث أيضًا عن صاحب الشّخصية العُصابية الذي قد يكون هو الآخر ضحية سهلة للتأثر السلبي بالمضامين الواردة تباعًا عبر منصات التّواصل الاجتماعي، وحتى أن تأثر الشخصية العُصابية بالمضامين الواردة إلى المنصات قد يفوق بكثير تأثر الفرد ذي الشخصية المُتزنة والسوية والمتكاملة، فالشخص العُصابي الذي يعاني من قلة الاتزان والتماسك العاطفي عادة ما تتصف ردود أفعاله بالتهويل والتضخيم وبانسحابها عن الواقع الحقيقي الذي لا يدعو لرد الفعل المهول. في حين أن الشخص المتزن الذي يتمتع بتوازن وانسجام عاطفي يكون أقل تعرضًا وحساسية للتأثر الانسحابي، وردود أفعاله عادة ما تكون منضبطة معتدلة متضامنة ومتوائمة مع الحدث والواقع.

زُملة أخرى من البشر قد نشهدها تُطالع أخبار المنصات بقليل من الوجدان الحي وبنقص في العاطفة النشطة، هؤلاء في متابعاتهم للمنصة الاجتماعية أكثر ما يهتمون به هو إغناء مشاعرهم بالعبث من الكلام والصور التي ترد المواقع والمنصات. مثل هؤلاء نجدهم يلهثون وراء الإشباع الوهمي واللذة المؤقتة التي تأتيهم عبر الأخبار والصور المزروعة بين طيات المنصات صادقة كانت أم لم تكن، فهي تحرك مشاعرهم باستمرار ولا يحتاج هؤلاء لأكثر من مجرد صورة على سطح المنصة حتى يتأثروا بها، فيسرحون ويمرحون أو يغضبون فيترحون. هؤلاء نجدهم بعد كل خبر وصورة، بعيدًا عن هوية الناشر وعلاقتهم به، يطلقون عبر المنصات الردود والتعليقات التي تحمل معاني الرغبات الدفينة الخاصة بهم، ليقوموا بذلك إما بتفريغ شحنات السّعادة والراحة التي تغمرهم أو أنهم يرفضون النشر فيبثون الغضب والكبت والعدوانية المتأصلة في نفوسهم. أحيانًا قد يُبدي هؤلاء طيفًا من اللامبالاة والمشاعر المخَدّرة في ردود أفعالهم خاصة إذا ما أرادوا الإشارة إلى خيبة الأمل التي تحذوهم من طبيعة المضمون المنشور. وهذا إن دلّ فإنما يدل على فقدانهم القدرة على التماهي مع المضامين المغايرة والتي تختلف في حالتها عن المتوقع والمرجو في حساباتهم. هذا النوع من المتصفحين يشبهون في تصفحهم حال قطعة الإسفنج التي تمتص كل ما تتعرض إليه بلا تنقية أو تصنيف. استجابتهم للأحداث والمعلومات التي تصورها لهم وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي بهم في كثير من الأحيان إلى تبني سلوكيات وأفكار خاصة بالرسائل والمضامين التي تعرض عليهم إيجابية كانت أم سلبية. بمعنى أنها تخلق لديهم نوعًا من الوعي المستلب أو إنسانًا ذا بعد واحد في التفكير مستعدًا لتقبل كل أنواع الفكر التي تبثها إليه التقنية التكنولوجية الحديثة.

لكي نتخلص من التأثيرات السلبية المترتبة على فقدان المؤهل للتعامل الناجع مع المعرفة الوافدة عبر الوسيط التواصلي الاجتماعي، والتي يختلط فيها الغث بالسمين، والمفيد مع الضار، والجيّد مع السيء، نحتاج إلى إنسان بمواصفات خاصة، إنسان ليس قادرًا فقط على القراءة والفهم، وإنما نحتاج إنسانا ممتلكًا لمهارات التحليل والنقد والمحاكمة، فكم المعلومات المتدفقة عبر هذه الوسائل يتطلب إخضاعها للعمليات العقلية العليا المُتمثلة في التمحيص والتحليل والتركيب والنقد، وهذا لن يتأتى إلا من خلال امتلاك مهارات التفكير الناقد.

د. زاهر عكرية

أخصائي نفسي إكلينيكي ومحاضر وباحث في علوم النفس الإكلينيكية وعلم الدماغ

شاركونا رأيكن.م