ثلاثة وثلاثون عاماً في الأسر

لعل ما يتبادر إلى الذهنِ عند سماع كلمةِ "أسيرٍ"، هو لوحةٌ فسيفسائية، قبيحةٌ، ترسمها بشكلٍ همجيٍ مجموعةٌ من جنودٍ، مستعملين ألوان بشرتهم للرسم، منهم الأبيض ومنهم الأسود، ومنهم من اكتسب شعره لونًا برتقاليًا يميل إلى الأحمر.. يرتدون ملابسَ تتباين ألوانها بين الأخضر الغامق والبني، عليها رتوشٌ من الكلمات بلغةٍ أحرفها غير مفهومةٍ للجميع، ويزين كل هذا القبح في اللوحة، بعضًا من الأسلحةِ المصنوعةِ في بلاد العم سام!

هذه اللوحة، بالرغم من كل القبح الموجود فيها، شكّلت جزءًا هامًّا وأساسيًّا من هوية الفلسطيني عند التفكير بالأسير. ويستطيع الفرد منّا إضافة لمساته لهذه اللوحة، بتخيلاتٍ عميقةٍ أو حتى سطحيةٍ تتعلقُ باستعمال عصبةٍ للعينين، تختلف ألوانها، وجزءًا بلاستيكيًّا، يلتف حول الأيادي، تشعر بألمه، بمجرد التفكير فيه. ومن هنا، نستطيع القول إن هذه اللوحةَ والتي تتكون عناصرها الفنية من الألوان والمواد الآنف ذكرها، مطبوعة بحبرٍ لا يستطيع أيّ من عناصر الجدول الدوري للكيميائيات مسحه! ومن قال إننا نريد مسح هذه اللوحة أصلاً؟

واستكمالًا للوحة الأسير، فإن أجزاء اللوحة الأخرى، مُبهمة، غير مرئية، كلوحةٍ لفنان تجريديٍ، ارتأى رسم بعض الخطوط المتداخلة، تعبيرًا عن حالةٍ نفسيةٍ كان يعيشها. فتنتقل اللوحة، من تخيّل كلمة أسير، إلى تخيّل تفاصيل السجن، والأحداث التي تدور بداخله. وتصبح العناصر أكثر، ويصبح المجهول أعمق، وما بين أسيرٍ وسجنٍ، وحاجزٍ وحاجزٍ، نقتبس محور مقالتنا اليوم!

إنني اليوم، وبكامل قواي العقلية، أرسم لكم لوحة... اختلفت فيها ألوان الأسر، وتغيّرت فيها تفاصيل السجن... لوحةٌ لم يحظَ راسمها بالوقت والزمان المناسبين لنشرها، ولم تسعفه أفكاره لنقلها، ولم تستطع كل حواسه مجابهة اللوحة الأولى. وإن الصراع ما بين اللوحة الأولى والثانية، حامٍ، حيث يرفض الأسير في اللوحة الأولى تفاصيل اللوحةِ الثانية، ويعتقد الأسيرُ في اللوحة الثانية، أنه يرسمُ بكل العناصر والألوان التي يريد!.

إن اللوحة الأولى بسيطة، لا يحتاج الشخص كثيرًا من الإمعان فيها لفهم فحواها... أسيرٌ، سجنٌ، جيشٌ، تعذيبٌ، إضرابٌ عن الطعام، زياراتٌ قليلة، وهكذا.

أما اللوحة الثانية فمعقدة، تحتاج محللًا فنيًّا ليشرح عناصرها، وتحتاج إلى كثيرٍ من الناس لتحليلها وفهم فحواها وتعقيداتها، وتأتي في سياقِ سيارةٍ فارهة، بيتٌ مطلٌ على مستوطنةٍ صودرت أراضيها مؤخراً، مطعمٌ فاخر يقدم الحُمص مع الأفوكادو، في انتهاكٍ صارخٍ لحقوق الطعام، ومدرسةٌ لا يتحدث طلابها العربية بطلاقة، وحسابُ بنكٍ لم يبقَ فيه سوى بعض الفُتات!

وبالرغم من كل فلسفة المذكور أعلاه، واعترافي ككاتبٍ لهذه المقالة، بأنني أشعر أن ميكافيلي، جالسٌ معي يفلسف ويعقّد المواضيع، إلا أنني متأكدٌ من حقيقةٍ واحدةٍ، أنني ما زلت قابعاً.... لثلاثةٍ وثلاثين عاماً في الأسر، وما ذكر أعلاه من لوحاتٍ فنيةٍ تحتاج أيضا إلى فرويد ليحللها نفسيًا، وإلى مايكل آنجلو أو بيكاسو لتحليلها فنياً، وإلى عباس وهنية ليشرحوها لنا سياسياً، وإلى الشعب كاملاً ليُقنعنا كيف قبل بهما، ولم يلحظ تناقضهما!

ولتقريب الصورة أكثر، فإنني أقتبسُ مطلع قصيدةٍ كتبها تميم ابن مريد البرغوثي ابن رضوى العاشورية فسماها "طمنوا ستي ام عطا" وتقول: "طمنوا ستي أم عطا بإنه القضية، من زمان المندوب وهي زي ما هية، لسة بنفاصل القناصل عليها، زي ما بتفاصلي ع الملوخية، لكن اطمني وصلنا معاهم بين ستة وستة ونص في المية، بطلعلهم يا ستي حيفا ويافا والنا خرفيش وسيسعة برية". ثم يكمل ويقول: "والنا دولة يحرسها طير السنونو يا ام عطا ولبسوه رتب عسكرية، والسنونو إله نمو اقتصادي، والسنونو إله خطط أمنية، والسنونو عم ينبذ العنف ويعلن التزامه الكامل بالاتفاقية، والنا برضه يا ستي سجادة حمرا، تالسنونو يأدي عليها التحية..."

تم أخذ اللوحة من موقع مؤسسة إنقاذ الطفل الدولية

أعزائي، سيداتي سادتي، إذا كنتم تعتقدون أنَّ وضعكم أفضل ممن هو قابعٌ في السجن الحقيقي، فأنتم واهمون، وإذا كنتم تظنون أنكم أحرار، فإنكم حالمون، وإذا استطعتم السفر والعودة بسلام، فإنكم محظوظون، وإذا زرتم حيفا فإنكم مشتاقون، وإذا وطأت أقدامكم رمل غزة، فإنكم خرافيون! أعزائي، سيداتي وسادتي، إذا ركبتم سيارةً فارهةً، فأنتم فارغون، وإذا لم تركبوا سيارةً فأنتم مسجونون، وإذا تحركتم خارج حدود حارتكم تصبحون مذعورين، وإذا انتبهتم لحدود دولتكم ستضحكون.... ستضحكون. مجدداً، أعزائي، سيداتي وسادتي، إذا طلَّ بيتك على المستوطنة، أو الجبل، أو مكبّ النفايات، أو الشارع الرئيس، فأنت مسجون! وإذا ارتفعت بنايتك، وسكنت في أعلاها، واستطعت النظر إلى البحر في يومٍ صافٍ، فإنك مسجون. وإذا تفاخرت بنوع حجارة البناء، والتقسيم الهندسي الأنيق للبيت، وتفاصيل المطبخ، ولون الأثاث، فلا تزال أسيرًا! وإن تفاخرت بنوع القهوة التي تشربها، وثمنها الباهظ، ستبقى أسيرًا! وإن طلبت وجبةَ طعامٍ مميزةً، ستبقى حزينًا...حزينًا... أسيرًا! ودعني أذكرك بشيءٍ ما، إن اللافتة في نهاية هذه المحافظةِ، باتجاه العاصمةِ تقول: البيرة تستودعكم القدس.... ولا تستطيع أن تقول لك كيف تصل إلى القدس، ومن استودعها، ونحن نستودع كل فلسطين، عند الذي لا تضيع عنده ودائعُ!

ثلاثةٌ وثلاثون عاماً في الأسر..... ولدتُ يوم هاجمت بغدادُ تل أبيب، ونشأت يوم اعترفت المنظمة "بإسرائيل"، وترعرعتُ يوم اقتحم شارون الأقصى والمسجدين، وأصبحت شاباً يومَ أُطلقَت النارُ على ظلِّ أمي الجميل، وكبرتُ يومَ تعلّمتُ طريقةَ مرور الحاجزِ اللعين، وها أنا أعيش في زيف... في زيف!

وأختتم باقتباسٍ آخر من ابن الرامة فرج حين غنّى وقال في مطلع اغنيته بعنوان شارع يافا: "مين طلّعنا من البيوت؟ مين قسّمها ومين أجّرنا استوديو أصغر من تابوت؟ مين أجا من تل أبيب؟ قصدي، مين أجا من بولندا؟ مين عمّر أبراج قزاز وإحنا هدلنا البرندة؟" ويضيف فرج قائلاً: "مين عربد على الناس، هجّم كلاب الأمن؟، مين هدد الأبو، ودبّر وظيفة للابن؟، مين دفع حقّ الحنين؟، مين شرى منّا الأمان؟، مين فركش الأمل؟، مين سرق عمر المكان؟"

وبين كل هذه الأوصاف تلك، وكل الكلمات العابرة، نستطيع أن نقول إن اللوحتين متشابهتان، ولكن إحداهما تتفوق جماعتها على الأخرى. فالأولى تُعاني بشكل مباشر، وتصرخ بشكلٍ واضح، وتضحي بكل شيء، وتعي ما تفعل، وموجودة في إطار اللوحة الأولى، أي السجن الحقيقي بمحض إرادتها وتفكيرها، وبكامل اختيارها!

أما نحن، أي أصحاب اللوحة الثانية، نعاني بشكلٍ غير مباشر، ونصرخ بصوتٍ مهترئ، ولا نعي ما نفعل، ولا أعلم ما هي تضحياتنا، وموجودون في إطار اللوحة الثانية، دون اختيارنا، ولا علمنا، ولا موافقتنا... وما زلنا عاجزين عن تغيير سجاننا أو مكان سجننا!

تم أخذ الصورة من منصة جدلية


الرسم للفنان الفلسطيني محمد سباعنة: 2013

أحمد ياسين

ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.

شاركونا رأيكن.م