ثقب أسوَد: الأقسام الأمنية في السجون الإسرائيلية

منذ بداية الحرب، تحولت الأقسام الأمنية في السجون الإسرائيلية، من جديدٍ، إلى ثقب أسود. فبحُجّة حالة الطوارئ، تم تمرير تشريعات تُعفي من جلْب الأسرى والمعتقلين المصنفين "أمنيين" إلى المحاكم، والاكتفاء بحضورهم الجلسات عبر محادثات الفيديو، إلا في حالات خاصة ونادرة، لا تحدث في العادة. في الوقت نفسه، انتهجت سلطة السجون سياسة إلغاء "الأنشطة الروتينية" في السجون أو تقليصها إلى الحد الأدنى، وذلك بحجة وجود حالة طوارئ. نتيجة لهذه السياسة تم، مثلًا، تعليق زيارات العائلات للسجون؛ وهي وسيلة التواصل الوحيدة بين الأسرى الأمنيين وذويهم. إذ تمنع إسرائيل، بشكل دائم، الأسرى الأمنيين من التواصل الهاتفي. إلى جانب ذلك، مُنع الصليب الأحمر من زيارة السجون، وتقريبًا لم تقم باقي الأجسام المراقبة (الدفاع العام، القضاة، نقابة المحامين) بإجراء أيّ زيارات. 

في ظل هذه العزلة، وانعدامِ الرقابة، وجد الأسرى أنفسهم لوحدهم في مواجهة التنكيل والتعذيب وسوء المعاملة، التي كانت أقسى من العادة، في ظلّ تغوّل السجانين، كما تُثبت حالات الاستشهاد العديدة للأسرى في الأشهر الأخيرة والشهادات العديدة عن التعذيب[1]. إضافة الى العنف والتعذيب الجسدييْن والنفسييْن، تحوّلت الظروف في المعتقلات إلى ظروفٍ لا تطاق. فوفق الشهادات التي تم جمعها،  يُمنع الأسرى من الخروج للفورة في ساحة السجن، وتتوفر الإضاءة ساعات محدودة لا غير، ولا تتوفر المياه للاستحمام إلا لفترات قصيرة لا تتجاوز الساعتين كل يوم في الحالة القصوى. كما يعاني الأسرى من شح في الطعام وقلّة في الأغراض الشخصية، من ملابس ومستلزمات النظافة الشخصية، ويصبحون متعلقين بما توفره سلطة السجون، إنْ وفرّتها. 

أما في داخل الزنزانة، فقد سمحت تشريعات أُقرت بحُجّة الطوارئ زيادة عدد الأسرى في كل زنزانة بشكل كبير يفوق عدد الأسرّة، وسمحت بإضافة فَرْشات على الأرض. من الناحية العددية، وعلى نحوٍ رسميّ، تستطيع السجون الإسرائيليّة احتواء 14500 سجينٍ داخلها، ولكنّ عدد الأسرى والمساجين اليوم يفوق 20,000 سجين. منذ بداية الحرب، ازداد العدد الإجمالي للأسرى والمعتقلين في الأقسام الأمنية بما يقارب 3000 أسيرٍ ومعتقل (يشمل ذلك الإداريين ولكن لا يشمل المعتقلين الغزيّين). [2] وفقًا لمعطيات مصلحة السجون، يوم 13 آذار/ مارس، تم توفير فَرْشاتٍ أو أسرّة مؤقتة لـ3380 أسيرًا ومعتقلًا أمنيًّا. مما يعني أنّ92% من الأسرى والمعتقلين الأمنيين محتجزون في حيز عالي الكثافة (أقل من 3 متر مربع للأسير) بشكل خطر ومناف للحد الأدنى من المعايير الإنسانية التي أقرّتها أيضًا المحكمة العليا (4-4.5 متر مربع كحد أدنى). [3]

منذ بداية الحرب، لا معتقل يخرج من السجن ولا يسمح لزائر بدخوله، إلا للمحامين. في هذه الظروف، تتحول زيارات المحامين للأسرى والمعتقلين إلى زيارات بالغة الأهمية للطرفيْن. من ناحية الأسير أو المعتقل، تشكل هذه الزيارة التواصل الإنساني الوحيد بينه وبين العالم خارج السجن. وأجاد التعبير عن ذلك موكلي في لقائنا الأخير، حين وصف ما تعنيه الزيارة له قائلا: "حياتي بتوقف اسا للزيارة الجاي". 

أما من ناحية المحامي، بالإضافة إلى تقديم المرافقة القانونية في الملف الجنائي، تتحول هذه اللقاءات إلى الوسيلة الوحيدة للتواصل مع الأسرى والمعتقلين للاطمئنان عليهم وجمع معلومات حول ظروف الاعتقال في محاولة لتحدّيها أو فضحها. هذه أمانة ومسؤولية كبيرة تُلقى على كاهل المحامي، فتصبح الصوتَ الوحيدَ الذي يستطيع المطالبة بأبسط حقوق المعتقل. فإنْ لم أطالب بشدة بحصول معتقل التقيته على جاكيت يقيه برد الشتاء، فسيبقى يرتجف بردًا كما لقيته في الزيارة.

تجدر الإشارة هنا الى كل ما ذكر أعلاه، لا يمت بصلة لظروف اعتقال المعتقلين الغزيين والذين غالبًا ما يُمنعون من لقاء المحامي لفترات طويلة جدًا ويتم احتجازهم في ظروف مخيفة لا زلنا لا نعلم عنها إلا القليل.

لم تسلم زيارات المحامين من التقييدات كذلك، فعلى المستوى الأول، قامت مصلحة السجون بفرز الأسرى والمعتقلين وتحديد أحقيتهم بالزيارة بحسب وضعهم القانوني. ففي أسفل القائمة، تمّ وضع الأسرى المحكومين، بذريعة عدم وجود إجراءات قانونية تخصهم، وبالتالي لا حاجة مُلحّة للقاء المحامي. وعلى رأس القائمة، تم وضع المعتقلين الجدد، بالذات أولئك الذين لم تُقدَّم ضدهم لائحة اتهام بعد. في هذه الحالات، وبسبب وجود جلسات في المحاكم، لا تستطيع سلطة السجون منع اللقاء مع المحامين، إلا أنها، على أرض الواقع وفي الأشهر الأولى للحرب، لم تبخل بفرض التقييدات على هذه الزيارة إنْ كان عن طريق المماطلة وعدم الرد، مرورًا باشتراط الزيارة بتنسيق مسبق يتطلب وقتًا، وانتهاءً بتعيين الزيارة لموعد بعيد. بالإضافة، اشتكى الكثير من المحامين من حالات مُنعوا بها من إجراء الزيارة. ففوْرَ وصول المحامية إلى السجن، وبشكل مثير للريبة على أقل تعبير، تطلق فجأة صفارة الإنذار معلنة حالة الطوارئ في السجن، والتي على أثرها يُمنَع من الزيارة إلى حين انتهاء حالة الطوارئ؛ الأمر الذي قد يطول لساعات لا يعرف أحدٌ طولَها، وأغلب الظن أنّ "حالة الطوارئ" تلك لا تنتهي إلا بعد أن تغادر المحامية أو المحامي السجن.

على المستوى الثاني، لم تسلم الزيارة نفسها، في حال وحصلت، من انتهاك سريّتها. فقد اشتكى كثير من المحامين من وجود الحرس في غرفة الاستشارة وجلوسهم على مقربة من الأسير بطريقة تكون فيها المحادثة بينه وبين محاميه على مسمع منهم. هذا الأمرُ غير قانوني طبعًا، ولكن في الظروف الراهنة، ولندرة الزيارات من جهة، وخوفًا من تعرض المعتقل لاعتداء فيما بعد، من جهة أخرى، كانت الزيارات تُجرى في أغلب الحالات رغم عدم قانونية تصرفات السجانين. بطبيعة الحال، في هذه الظروف، لا يستطيع الأسير أو المعتقل التحدث بحرية مع محاميه، وبالذات لا يستطيع مشاركته بأيّ شكوى حول ظروف السجن أو تصرفات السجانين.

أما العائق الأكبر أمام العمل القانوني للمطالبة بالحد الأدنى من الحقوق للمعتقلين والأسرى، فهو المحاكم نفسها. ففي الأيام الأولى من الحرب، رفضت المحكمة العليا التماسًا قدمته جمعيات حقوقية للحد من الممارسات التي تمس بحقوق المعتقلين والأسرى. وجاء رفض الالتماس بحجه كونه عامًّا وبحجة وجود آفاق أخرى للمطالبة بالحقوق، وذلك عن طريق التوجه بالتماسات فردية باسم كل أسير على حدة. وحين توجه المحامون والجمعيات بالتماسات فردية، في حال وجود ملتمس رغم وطأة التهديدات في السجن، تم أولًا تعيين جلساتها في مواعيد بعيدة تصل إلى أسابيع طويلة حتى لو كانت الجلسة تتعلق بأمر طارئ كالحصول على ملابس شتوية تقي من البرد، ومن ثم يتم رفضها إما لكونها تتعلق بالسياسة العامة وإمّا لكونها تعتمد على أسس وقائع تدّعي سلطة السجون أنها تغيرت منذ الزيارة الأخيرة للمحامي. بالتالي، خلقت المحاكم حلقة مفرغة تحول دون القيام بأي فحص لقانونيّة سياسات مصلحة السجون مما يعزز صورة السجون كثقب أسوَد.


  1.  للاطلاع على تقرير الجمعيات الحقوقية (عدالة، لجنة مناهضة التعذيب ومركز الدفاع عن الفرد) للمقررة الخاصة للأمم المتحدة حول التعذيب في السجون: https://www.adalah.org/en/content/view/11049 

  2.   للاطلاع على معلومات عددية حول عدد الاسرى والمعتقلين في موقع مركز الدفاع عن الفرد: https://hamoked.org.il/prisoners-charts.php .
     للمزيد من المعلومات حول الكثافة في السجون في موقع جمعية حقوق المواطن : https://www.acri.org.il/post/__171.

المحامية ميسانة موراني

محامية في مركز عدالة

شاركونا رأيكن.م