واقع الحركة الأسيرة في ظل حرب الإبادة
لم تسلّم سلطات الاحتلال بما حققته الحركة الأسيرة على صعيد شروط الحياة من خلال نضالها الطويل والمرير، وحاولت مراراً وتكراراً استثمار بعض الفرص للانقلاب على نمط حياة الأسرى، وتجلى ذلك حين تم تعيين جلعاد اردان وزيرًا للأمن الداخلي والذي شكل لجنة حملت اسم رئيسها وهو ضابط شرطة يدعى كعتابي وقدمت له توصيات من شأن تنفيذها إلغاء معظم الانجازات التي حققها الأسرى بنضالهم وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ونجح الأسرى في التصدي للنهج الجديد، ولكن هذه التوصيات ظلت قائمة إلى أن تولى إيتمار بن غفير وزارة الأمن القومي، فحاول مرتين الانقضاض على حقوق الأسرى عبر تفعيل وتنفيذ توصيات لجنة كعتابي "رغم أنه كان يردد أنه يريد أن ينفذ رؤيا خاصة به بشأن الأسرى" أي أن ينسب الموضوع لنفسه لاعتبارات دعائية واستعراضية إلا أنه ونتيجة للموقف الحاسم الذي أعلنته الحركة الأسيرة والمتمثل بقرارها البدء بإضراب شامل عن الطعام إذا أقدم بن غفير على هذه الخطة، وكذلك الجهود التي بذلت في الخارج من خلال القنوات السياسية والأمنية تمت محاصرة بن غفير، إذ تمخضت الجهود حينها عن وقف الإجراءات عبر اتخاذ قرار يقضي بأن أي تغييرات جوهرية على حياة الأسرى تتخذ فقط من قبل الكابينت الإسرائيلي وليس من قبل الوزير بن غفير.
ومع بدء حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، تغيرت الظروف والموازين وانقلبت كل المعطيات والقواعد التي حكمت العلاقة بين الحركة الأسيرة وإدارة مصلحة السجون، فأصبح الجيش هو المسؤول الأعلى عن السجون في ظلّ إعلان حالة الطوارئ، فاستغل بن غفير الظرف الجديد، إذ أزيلت من أمامه كل المعوقات لتنفيذ سياسته وتوجهاته الإجرامية بحق الأسرى، مستغلاً حاجة نتنياهو له لضمان استقرار الائتلاف الحكومي فأطلق يده ليفعل ما يشاء، ولذلك فقد أعلنت الحرب على الأسرى بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ تم منذ اليوم الأول للحرب مصادرة كافة مقتنيات الأسرى، مثل أجهزة الراديو والتلفاز والبلاطات والأباريق الكهربائية ثم مواد الكنتين التي يستعين بها الأسرى لتعويض النقص في الغذاء المقدم لهم، ومنعوا الخروج إلى الساحات أو التنقل بين الغرف والأقسام ومنعوا زيارة الأهل، وكذلك الصليب الأحمر والمحامين، أي أنهم قطعوا الأسرى عن العالم الخارجي تماماً، ثم بعد أيام من هذه الإجراءات بدأت أعمال القمع والضرب الوحشي للأسرى في كافة السجون من خلال الوحدات الخاصة التي استقدمت خصيصاً لتتولى أعمال القمع وهي وحدات "المتسادا" و"الكيتر" و"اليماز" و"الدرور" وغيرها من المسميات التي أطلقوها على وحداتهم الخاصة... ثم لاحظ الأسرى وجود الجيش في محيط السجون، والأخطر من كل ذلك الظهور المسلح في أقسام السجون بالأسلحة الرشاشة، إذ تكوّن شعور لدى الأسرى أنهم يُستدرجون لردود فعل جماعية ليكون ذلك مبررا لاستخدام السلاح والقتل للسيطرة على التمرد.
ولم يتم الاكتفاء بالإجراءات آنفة الذكر بل قاموا بتقليص وجبات الطعام بشكل كبير حيث أن كمية الطعام التي تكاد لا تكفي أسيرين اثنين تقدم لعشرة أسرى، ما أدى إلى حالة دائمة من الجوع وفقد الأسرى ما متوسطه عشرين كغم من أوزانهم بسبب قلة الطعام وسوء تصنيعه، ثم تم سحب كافة الملابس والأغطية ولم يبقوا لدى الأسير سوى غيار واحد وبطانية واحدة، ونظراً لحملات الاعتقال الواسعة والتي نرى فيها صورة من صور هذه الحرب الانتقامية وعدم توفير أماكن جديدة للمعتقلين الجدد، فقد تم الزج بهم في نفس السجون التي كانت تعاني أصلاً من الاكتظاظ، وتمت مضاعفة عدد الأسرى في الغرفة الواحدة إذ ينام نصفهم على الأسرّة الموجودة أصلاً والنصف الآخر ينام على الأرض، وأصدر الكنيست تشريعاً يقضي بتجميد القيود المتعلقة بالمساحات المخصصة للأسرى، الأمر الذي أدى إلى حالة من الاختناق، وعلاوةً على كل ذلك تم تقليص كميات مواد وأدوات النظافة، مما يتسبب برفقةِ سلسلة الإجراءات الأخرى بخلق بيئة محفزة ومساعدة على انتشار الأمراض العضوية والعصبية والنفسية، كما تقوم إدارة السجون بعمليات نقل مستمرة ومتواصلة بين الأقسام والسجون والغرف بحيث لا يشعر الأسير بأي قدر من الاستقرار وتتم هذه العمليات في أجواء قمعية ويُخلط الأسرى من كافة التنظيمات في غرف مشتركة، وهذا الأمر كان يتحكم به الأسرى بحيث يوزعون أنفسهم وفقاً للانتماء التنظيمي وبما يلبي حاجاتهم لتنفيذ برامج تثقيفية وتعليمية وعقد الدورات، واستهدفت مصلحة السجون مجموعة من الأسرى الذين مارسوا دوراً قيادياً هاماً من خلال عزلهم عن بقية الأسرى والتنكيل بهم والاعتداء عليهم بطريقة وحشية عرضت حياتهم للخطر.
لقد استغلت إسرائيل أحداث السابع من أكتوبر لتنفيذ كل ما كانت تخطط له ضد الحركة الأسيرة، ولم تسعفها الظروف سابقاً للقيام بذلك، فإعلان حالة الحرب والطوارئ مكن بن غفير من التجرّد من كل الاعتبارات والالتزامات المترتبة على الدول، وتجاهلت الحكومة الفاشية في إسرائيل حقيقة أنها دولة ينبغي لها أن تحتكم إلى ما نصّت عليه الاتفاقات والقوانين والشرائع الدولية، وضربت بعرض الحائط بما اصطلح عليه الإدارة الدولية، وتصرفت كما لو كانت عبارة عن ائتلاف لمجموعة من العصابات الإجرامية التي تحركها نزعة الشر والرغبة بالانتقام وإيقاع أكبر قدر من الأذى بالشعب الفلسطيني وبرموزه من الأسيرات والأسرى.
كل ما سلف يتعلق بالأسرى من الضفة الغربية والقدس والداخل، أما أسرى غزة فقد واجهوا ما هو أبشع وأفظع، إذ مورست بحقهم جريمة الإخفاء القسري، فلم تفصح إسرائيل عن أعدادهم وأسمائهم وأوضاعهم وأماكن احتجازهم لأي جهة كانت وقطعتهم بشكل كامل عن العالم الخارجي لكي تستفرد بهم، ولم تتوفر معلومات عن الجرائم بحقهم إلا القليل منها وشهادات لأسرى محررين كانوا في أقسام مجاورة لأقسام الغزيين، إذ أجبروهم على النباح كشرط لإعطائهم الطعام أو إجبارهم على ترديد أناشيد إسرائيلية أو شتم رموز المقاومة. وكان وزير الحرب الإسرائيلي قد أعلن في اليوم الأول للحرب عن افتتاح معسكر "سديه تيمان" ليكون سجناً للمقاتلين الذين صنفهم باعتبارهم "مقاتلين غير شرعيين" وبشكل مخالف لكافة القوانين الدولية، وقد تسرّب لوسائل الإعلام الإسرائيلية وتحديدا صحيفة هآرتس أن سبعة وعشرين أسيراً منهم قد قتلوا، طبعاً هذا إضافة لثلاثة عشر أسيراً آخر من بقية المناطق قد قتلوا ايضاً، وقضاياهم الآن منضوية أمام ما يسمى "القضاء الإسرائيلي"، وقد ثبت بالوجه القطعي أن بعضهم قد قتلوا نتيجة الاعتداءات الوحشية التي تعرضوا لها، وهذا معزز بالمستندات والوثائق، ومازالت إسرائيل ورغم دخول هذه الحرب الآثمة شهرها السادس تحجب المعلومات بخصوص أسرى غزة وقد اعتقلت الآلاف منهم ومازالت هذه الجريمة مستمرة ومتواصلة.
إن السلوك الإجرامي لدولة الاحتلال من خلال استمرارها في حرب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني وأسراه وأسيراته، إنما يؤكد على أنها دولة مارقة متمردة على منظومة القيم المتوافق عليها عالمياً، وإن استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية دون أي مساءلة أو محاسبة من قبل المجتمع الدولي، جعل منها شبيهة لأي دولة إرهابيّة تستند إلى قوة عسكرية غاشمة وإلى السيطرة كي تحقق ديمومتها بمعزل عن واجباتها وفقًا للقانون الدولي، الأمر الذي جعل منها عبأً أخلاقياً على هذا العالم الذي فشل حتى الآن وفشلت كل منظوماته في إلزام اسرائيل بوقف حربها المجرمة أو بالحد الأدنى بالالتزام بقواعد القانون الدولي.
تصوير: الصحفي معتز عزايزة.