معماريّة الحِكمة في الزمن الموازي

"ما أوسعَ الأرضَ.. ما أجملَ الأرضَ مِن ثُقبِ إبرة"- محمود درويش

مصطلح الزمن الموازي، تأصّل في مشاع التمحيص من ليل وأسفار السجون تأصيلًا عضويًّا لتأمّل مفهوم الزمن، حيث يعبّر الأسير الصامد أمام آلة الزمن والمرض، وليد دقّة، منظّرًا لفكرة الزمن الموازي مِن موضعِه في المكان الثابت. حين يتحوّل المكان في حالة الأسر والسجن تكثيفًا مُرًّا للأزمنة، بوصفها داخليّة عموديّة وخارجيّة أفقيّة بين ما يحفر في طبقات الذات وسطح العالم. ومِن مُصاحِبات الحفر في سؤال الزمن ما يتمثّل في إكراه الإزميل بالنقش العنيف على صولجان الرياح والعناصر!

لم تنشأ تجربة الكتابة من واقع الأسر في الأدب الحديث ظاهرةً بكرًا، وتحديدًا النوع الأدبيّ الذي تطوّر؛ فصار موسومًا بأدب السجون نوعًا أدبيًّا مستقلّا له تعبيراته وأشراطه وظروفه. وبإجراء مسحٍ سريع سنجد الشعر العربيّ زاخرًا بمراثي الأسر وبكائيّات الأصفاد؛ مرورًا بتجربة الشاعر أبي فراس الحمدانيّ نموذجًا، والذي وقع في الأسر أكثر من ثلاث مرّات، فجعل من الحمامة مُعادلَه الصّائت بين الداخل والخارج: "أقول وقد ناحتْ بقُربي حمامةٌ"، ولاحقًا حين استعصت الدموع على النفس: "أراك عصيّ الدمع شيمتكَ الصبرُ". بقيَتْ هذه البُكائيّات حالاتٍ تعبيريّةً تتشكّل فوق قشرة الذات، لكنّ معماريّة الحكمة كانت تأخذ بناء مفهوم الزمن اعتمادًا على: الفكرة، السياق والشكل.

أيديولوجيا الكتابة

أمّا الفكرة فهي المنظومة الإجرائيّة في عقيدة الكتابة من الأسر، إذ لا تخلو كتابة أدبيّة وشعريّة من عمادها الفكريّ والأيديولوجيّ، في حين كانت تجربة محمود درويش في مرحلته الشعريّة الأولى تستند إلى مرجعيّة أيديولوجيّة يساريّة، ماركسيّة، شيوعيّة أمميّة، إذ استمرّ درويش في مناجاة ذاته العقائديّة من شبّاك الحالة الحزبيّة، وإن كانت تجربته مع الأسر الفعليّ في سجن "معسياهو" لم تتجاوز العام الواحد، لكنّها فجّرت فيه مكنونات تعبيريّة وجماليّة تجلّت بقصيدته ذائعة الصيت "إلى أمّي"، وقليلون يعرفونها بعنوانها الدقيق، لأنّها شاعت في غناء مارسيل خليفة "أحنّ إلى خبز أمّي"، كذلك في تلك المرحلة الأولى من تجربة درويش الشعريّة بقي النبر العالي المباشر الإنشاديّ الصارخ في تعبيره "لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل" رفضًا قاطعًا لحالة الجمود التي يسلّم بها الجميع أمام الأحكام العالية التي يقضيها الأسير في فيزياء المكان. لا تخلو تجارب شعراء المقاومة الفلسطينيّين من مرحلة السجن والأسر، مرحلةً مؤسّسة للوعي الكفاحيّ السياسيّ، فيما تبقّى من أرض فلسطين المعزولة ثقافيًّا وأدبيًّا عن الجغرافيا العربيّة، ولذلك كان النظر إلى الأرض العربيّة تلصّصًا من ثقب الإبرة، إلى أن جاء غسّان كنفاني ليكشف عن أدباء الأرض المحتلّة: توفيق زيّاد، راشد حسن، سميح القاسم، محمود درويش، معين بسيسو وسالم جبران، أمّا الأخير فلم ينل حظّه من الدراسات والاهتمام النقديّ، وإن كان شعريّته في ستينات وسبعينات القرن الماضي لا تقلّ عن شعريّة السابقين. وهكذا تشكّل أدب الالتزام مفهومًا جوهريًّا وقضيّة وجوديّة مدافعة عن الوجود قبل الحقّ في الإبداع.

تذكر السرديّات الأدبيّة عن كبير حُجّاب بني أميّة جعفر بن عثمان المصحفيّ، حين سجنَهُ محمد بن أبي عامر عازلًا إيّاه عن دولته، فاستجداه المصحفيّ مرّات من أسره، ووقعت تحت أيدينا هذه القطعة الشعريّة:

"وكانت على الأيّام نفسي عزيزةٌ

فلمّا رأت صبري على الذلّ ذلتِ

فقلتُ لها يا نفسُ موتي كريمةً

فقد كانت الدنيا لنا ثمّ ولَتِ"

في أبيات المصحفيّ تنبثق فكرة العزّ بعد الذلّ، لكنّها تتوق حين الوصول إلى نقطة النهاية بطلب الخلاص بالموت الكريم بعد أن ولّت الدنيا عنه، بلا أدنى شكّ أنّ هذه الأبيات تعكس بكاءً نخبويًّا يخلو من قضيّة وفكرة أصيلة مدافعة عن وجود الجماعة، لأنّ الخلاص لدى المصحفيّ يبقى خلاصًا فرديًّا، كذلك الفكرة التي وردت في أبيات للمعتمد بن عبّاد المنفيّ في نهاية حكمه إشبيليّة إلى أقاصي المغرب في أغمات، فجاء قوله:

"فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا

فجاءك العيد في أغمات مأسورا"

هو الذي شغل ملوك الطوائف بقصص ترفه وعشقه وشربه وتورّطه بالشعر حالةً منَ السكر والضياع أبعد عن أن تكون حالته الفرديّة تمثّل التزامًا بالمفهوم الذي تحدّث عنه سارتر.

شعراؤنا الفلسطينيّون كانوا من أبناء الغلابى، فلم يتوقوا إلى مجد ولا شهرةٍ افتراضيّة، بل رسخت القصيدة لديهم من عُمق الأزمة التاريخيّة التي حوّلتهم وشعبهم من شعب عزيز إلى شعب يحمل خيمته في بلاد الله الواسعة. لذا من الأهميّة بمكان أن نرى هذا المعادل المفارِق في تجارب الأدب العربيّ القديم، في معالجة موضوعة الأسر والسجن من خلال معماريّة الحكمة الباذخة، في حين تحوّلت موضوعة الأسر في الشعر العربيّ الحديث والفلسطينيّ على وجه التحديد إلى موضوعة سياقيّة ومفاهيميّة، تنشط في الغوْر الفلسفيّ من معاناة الأسر، بوصفه معادلًا لمظلوميّة وطنيّة وإنسانيّة، يدفع فيها الإنسان حياته ثمنًا لقضيّة ومبدأ ووعدٍ تحرّريّ.

متلازمات مفاهيميّة وشكليّة في التجربة الشعريّة

بالعودة إلى السياق الشعريّ الفلسطينيّ، لم تنفصل تجربة الكتابة عن السياق العام، والسياق العام هو سياق استعماريّ إحلاليّ من التغوّل في اقتطاع الأرض، وتشويه وعي الإنسان الفلسطينيّ، خنقِهِ وتفعيل شرطة المشاعر على الهويّة والتماهي الإنسانيّ، والشعر بوصفه واحدًا من الأدوات التعبيريّة القادرة على الحشد والتجنيد بالحضور المنبريّ في مرحلة الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، حين وصلت هذه الأداة أوجها قبيل يوم الأرض 1976، إذ استطاع الشعر الفلسطينيّ في تلك المرحلة من استرجاع ثقة الجماعة بشخصيّتها الوطنيّة وعروبتها وإنسانيّتها ولغتها، فلم يخلُ أيّ مهرجان سياسيّ خطابيّ من حصّة الشعر فيه نبرًا وصوتًا عاليًا.

كما ذكرنا عن تجربة السجن عند محمود درويش، والتي لم تثنِ قصيدته عن هويّتها الصداميّة التصاعديّة، فكانت لقصيدة توفيق زيّاد الشأن ذاته، حيث تعرّض كذلك للاعتقال مرّات عديدة "واقتلوني أتحدّى.. لا دمي تشربه الأرض ولا روحي تهدا". وهذا غيض من فيض تجارب الشعراء الآخرين.

في مراحل متأخّرة بدأت تظهر النزعة الإنسانيّة المحضة في تجارب الشعر الفلسطينيّ من داخل الأسر، وعلى سبيل المثال، في تجربة الشاعر محمود الغرباويّ والذي خاض إضرابًا عن الطعام في سبيل نيل الأسرى بعضًا من حقوقهم، وارتقى شهيدًا بعد عشرين عامًا من الأسر والمعاناة:

"الجوع يغزو خلاياك.. يغزو كيانك يصرخ في نومك المتشرخ

الجوع وحش بأشداق زنزانة مغلقة

وليس سوى وقع بسطاره، وضجيج السلاسل

وبين الرغيف وإضرابنا هوّة انتظار

وبين القرار وأمعائنا.. يربض الموت والانتصار"

تظهر في هذه المقطوعة الشعريّة النزعة الوجوديّة التأمّليّة لواحدة من أعظم التجارب الإنسانيّة، حين يناضل الأسير بأمعائه الخاوية في وجه آلة البطش والقمع والإخضاع، إلى أن تنتصر الأمعاء الخاوية في نهاية المطاف على صلافة السجّان. هذا الانتصار هو انتصار للمفهوم وليس انتصارًا للقصيدة، انتصار لقوّة الحقّ على حساب الشرط الإبداعيّ، تفوّق أخلاقيّ للجوع الطوعيّ على استعلائيّة المتغطرس، والأمثلة التي يُمكن أن تُساق كثيرة.

لطالما تفرّد المبدع الأسير شاعرًا وقاصًّا وروائيًّا ومثقّفًا بلغة وأسلوب وشكل جماليّ فاتِح، يؤسّس من خلاله رؤاه الفلسفيّة للوجود والعالم واللغة، القادرة على نقله بين المخيال النفسيّ قفزًا عن الزمن المكثّف في حالة الأسر، وبين أزمنة موازية واقعيّة، يغيب حضورُه فيها، وتحضر هي إليه من خلال هذه الحالة الفريدة، وبالذّات لمن يقضون أحكامًا مؤبّدة وطويلة. ما ينتج عن هذه الحالة الإنسانيّة عميقة التجربة والسيرورة معماريّة للحكمة الفرديّة، حول مفهوم الفداء والتضحية ونقش الانتظار بإبرة التفاصيل، والحكمة الجماعيّة التي تمنح للحياة معنى زاحفًا على بطنه، في خوض النضالات من أجل انتزاع حقوق الأسرى وتحسين شروط بقائهم، وعلى هاتيْن القائمتيْن ينهض الشكل الإبداعيّ الخاضع لنوعه وجنسه المولود في الأسر، فيما لا تُقاس هذه التجارب الشعريّة والأدبيّة لأيّ معيار من معايير الزمن الموازي الذي يعيش طبيعته الفيزيائيّة والوجوديّة في مناخ بديهيّ رتيب، ويبقى الزمن المكثّف متآلفًا ومتنافرًا، فاحصًا وباحثًا عن المعنى وشكله، عن القول وأداته، عن مُحال يتحقّق في شرط الكتابة. وكلّ ذلك لا يمنع أبدًا من وصول هذا الإبداع المكتوب في الأسر والمعتقلات إلى شقّ طريقه نحو العالم، كما حدث في تجربة الروائيّ الأسير باسم خنجقجي وروايته "قناع بلون السماء، 2023" المرشحة لجائزة البوكر للرواية العربيّة.

فمن مآثر النضالات في الحركة الأسيرة، تحويل السجون والمعتقلات إلى ما يشبه المختبر الفكريّ والإبداعيّ، بتحويل هذه السجون إلى جامعات يُجاز فيها الأسرى الفلسطينيّون بالدرجات الأكاديميّة والعلميّة، إضافة إلى التحصيل التعليميّ والثقافيّ، فقد تشكّلت لدى مئات الأسرى مشاريع فكريّة وإبداعيّة تخرج إلى العالم لتضيء على بعض عتمته.

علي قادري

شاعر وباحث في مجال النقد الثقافيّ والأدبيّ. مدرّس للغة العربيّة. طالب الدراسات العليا للماجستير في قسم اللغة العربيّة وآدابها جامعة حيفا، لنيل الإجازة بأطروحة: سيميائيّة النصّ المفتوح والنصّ المغلق في الشعر الفلسطينيّ

شاركونا رأيكن.م