شيفرة لغة السجون
في بداية عملي ولأول وهلة كانت تبدو لي لغة غريبة وكأنها شيفرا مبهمة، ولكن مع الوقت تعرفت شيئاً فشيئاً إلى المصطلحات والمفردات التي يتداولها الأسرى بين بعضهم البعض والتي أضحت قاموسًا خاصّا بهم أو بالأحرى "لغة السجون" والتي لا يعرفها إلا من ذاق معاناة السجن والسجان، فهنالك مفردات أوجدها الأسرى الفلسطينيون كرموز تمويهية لإدارة الصراع بينهم وبين السجان وهنالك مصطلحات عبرية ترجع لطبيعة العلاقة بينهم وبين السجانين الذين يتكلمون العبرية ومع الوقت أصبحت دارجةً بلغتهم اليومية داخل السجن.
مع بداية الحرب على غزة ازدادت عمليات الاعتقال لتصل إلى نحو 8600 اعتقال، فضلًا عن أسرى ما زالوا يقبعون وراء القضبان منذ سنوات الثمانينات، أي ما قبل اتفاقية أوسلو وقد مضى على أسرهم أكثر من 35 عامًا.
السجن بلغة السجون يسمى قلعة وغالباً ما يكون على اسم شخصيات او بلدات فلسطينية ويتم تخيير المعتقل في العيش مع معتقلي التنظيم الذي ينتمي له، ففتح يسمون أنفسهم "أخوة"، حماس "مجاهدين"، الجهاد الإسلامي يسمون بعضهم "حجاجًا" والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية "رفاقًا"، أما المستقل فيتم سؤاله مع أي تنظيم يحبذ البقاء وعندها يعتبر الأسير "تحت ظل" تنظيم عينيّ ولا يحق له المشاركة في انتخابات التنظيم.
يتم تسمية مسؤولي التنظيمات في السجون حسب فصيلهم، فمسؤول فتح يسمى "الموجه العام"، حماس والجهاد الإسلامي يسمى "أميرًا" أما الجبهات الشعبية والديمقراطية فيسمى "سكرتيرًا".
لا يحق لأيّ أسير الحديث مع إدارة السجن بل هناك ممثل لكل قسم يسمى "دوفير" وهي مأخوذة من اللغة العبرية، ولكن مع بداية الحرب على غزة ترفض إدارة السجون التعامل مع ممثلي التنظيمات.
على الأسير الالتزام بـ"النظام الداخلي" وهو القانون الناظم لحياة الأسرى الداخلية وكل من لا ينصاع للنظام الداخلي يسمى "منفلش"، والانفلاش هو عدم الانضباط للقوانين التنظيمية.
اعتمد الأسرى في حياتهم اليومية على الشراء من بقالة السجن، والتي تسمى "الكنتينا" ويقومون بالشراء من حساباتهم الخاصة، حيث يتم استصدار رقم حساب لكل معتقل بعد أن تصدر لائحة اتهام بحقه، أو بعد أن يثبت اعتقاله الإداري عبر المحكمة، وعندها يتم إيداع المال في حساب الأسير من عائلته ومن هيئة شؤون الأسرى والمحررين. يتم اختيار أسرى للخروج للشراء من الكنتينا يسمونهم "خولياه" وهم من يوزعون الأكل أيضًا على الأسرى.
تقوم إدارة السجن بإحصاء الأسرى 3 مرات في اليوم وتسمى "سفيراه"، وعند العَدّ يجب على الأسير أن يقف حتى لو كان مريضاً لا يستطيع النهوض من فراشه، وهناك شهادات من أسرى تفيد بأنه ومنذ الحرب على غزة، تتعمد إدارة السجون سياسة الذل والحرمان للأسرى فتجبرهم وقت العدّ على الركوع ووجوههم باتجاه الحائط، وأيديهم فوق رؤوسهم ويُحرمونَ من الشراء من "الكنتينا"، وهناك فحص يومي للأرضيات والشبابيك وتسمى "دقّ الأرضيات وسورجيم" تخوفاً من هرب الأسرى.
عند قيام إدارة السجون باقتحام وتفتيش الغرف يضرب زامور وتعلن "حالة الطوارئ" بالسجن فيتم إغلاق السجن وتمنع الحركة الخارجية، حتى وإن صادفت حينها زيارة محامٍ لأسير، يتم إدخاله للقسم وإخراج المحامي من الزيارة، أما الوحدات الخاصة باقتحام وتفتيش غرف الأسرى وقمعهم، فهي متنوعة منها داخلية من السجن ومنها الخارجية كوحدات "متسادا"، "يماز"، "يمام"، "يمار" وأحياناً لا يُضرب الزامور ويكون الاقتحام والتفتيش مفاجئًا.
أحياناً يضرب زامور حالة الطوارئ بسبب تمرين للإدارة بالسجن او لوجود مشكلة بين الأسرى أنفسهم تستدعي تدخل الإدارة.
إحدى الوسائل التي تتعمدها إدارة مصلحة السجون لإذلال الأسرى والأسيرات هي سياسة التفتيش العاري أو ما يسميه الأسرى "عيروم"، حيث يُجبرُ الأسير على خلع ملابسه كلها ويُفتّش عبر جهاز الفحص، وتنتهج إدارة السجون هذه السياسة عند استقبال أي أسير جديد أيضاً، وقد برزت أخيرًا بشكل معتادٍ عقب اندلاع الحرب على غزة.
أما الوحدة التي تنقل الأسرى من سجن إلى آخر أو إلى المحكمة أو المستشفى فتسمى "النحشون"، والسيارة التي يُنقلون عبرها تسمى "البوسطة"، وقد تحدّثت شهادات عديدة من الأسرى عن وصف عملية النقل وخاصة إلى المحكمة أو العلاج الطبي، على أنها رحلة معاناة وأحيانًا تستمر 3 أيام، حيث يُنقلون إلى ما يسمى "المعبر" وهو سجن يعتبر محطة، وهي عبارة عن غرفة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، يتم نقل الأسير إليها قبل جلسة المحكمة بيوم وإعادته منها لسجنه بعدها بيوم.
يناضل الأسرى يومياً من أجل تحصيل حقوقهم داخل السجن وتحسين ظروف حياتهم، وعندما لا تستجيب الإدارة لطلباتهم لا يبقى أمامهم إلا اتخاذ "خطوات" وهو برنامج لخطوات احتجاجية ينفذها الأسرى ضد سياسة إدارة السجن، مثل عدم الوقوف على العدّ اليومي، ترجيع وجبة أكل، الوقوف في الساحة والخ.. وإذا استمرت إدارة السجن بالتعنت يتخذ الأسرى خطوة الإضراب عن الطعام أو ما يسمونه "معركة الأمعاء الخاوية" وعندها تتخذ إدارة السجن عقوبات بحقّهم منها العزل "هفرداه"، مصادرة الأدوات الكهربائية، حرمانهم من زيارة الأهل، حرمانهم من شراء "الكنتينا"، دفع غرامة مالية الخ.. كرد فعل على ذلك يدخل الأسرى في حالة "استنفار" وهي حالة طوارئ يقوم بها الأسرى أنفسهم كخطوة احتجاجية ضد إدارة السجن بإطار رد الفعل، ومن أشكالها "البسطرة" حيث يرتدي الأسرى الأحذية للتأهب لحدث ما ضد إدارة السجن.
يبتكر الأسرى وسائل عدة للتواصل بين بعضهم البعض في السجون أو مع العالم الخارجي، فالحاجة أم الاختراع، ومنها تهريب هاتف خليوي والذي يسمى بلغتهم "غزال"، أما الكبسولة فهي رسالة مهربة عبارة عن ورقة صغيرة مكتوب عليها بخط صغير ويتم تغليفها بالنايلون لتصبح مثل كبسولة الدواء توضع أحيانًا تحت اللسان أو يتم شربها فتخرج إما عن طريق التقيؤ أو البراز لأنها غيرُ قابلة للهضم.
عند اقتراب السجان من الغرف يقوم أحد الأسرى بالصراخ "غيمت" للتنبيه من ذلك، وأحيانًا تستغل إدارة السجن أحد الأسرى للتعامل معه وتسريب المعلومات عبرَه عما يدور داخل السجن فيطلق عليه "عصفور".
*من المهم الإشارة الى أنه خلال فترة التحقيق، يتم إدخال جاسوس إلى المعتقل أو بلغة السجون "عصفور"،وثمّة أقسام كاملة للجواسيس حيث أن المحققين يوهمون المعتقل بانتهاء التحقيق وبنقله إلى سجن مركزي، ليتبين لاحقاً أنه كان في قسم الجواسيس "العصافير" وذلك لسحب اعترافات من المعتقل. وقد تعددت المصطلحات في شتى مناحي حياة الأسير، فالسرير الذي ينام عليه يدعى "برش" وهو ليس سريرًا عاديًّا، فإما أن يكون من حديد أو من باطون وعليه فرشة جلدية رقيقة "جومي"، " الاشناب" هي الفتحة التي تكون بباب الغرفة، أما الساحة التي يسمح للأسير الخروج اليها للتجول او للعب الرياضة فتدعى "الفورة" وهي مسقوفة بالأسلاك الشائكة وتخضع لمراقبة بالكاميرات مع تحديد لوقتِ إتاحة الخروج إليها من قبل إدارة السجن.
من ضمن الإجراءات المشددة والعقابية التي اتخذتها إدارة مصلحة السجون إبان الحرب ضد الأسرى هي تحديد ساعة فقط للخروج للفورة، منها وقت الاستحمام أي بمعنى ابقائهم حوالي 23 ساعة في اليوم محشورين داخلَ الغرف.
تبقى هذه الكلمات والمفردات بمثابةِ لغة حصرية تخص حياة وواقع الأسرى الفلسطينيين، وما زال هناك الكثير منها تخص جوانب عديدة من جوانب حياتهم اليومية الثقافية، التنظيمية وغيرها، والتي اكتسبت شرعيّتها من واقع الأسر والمعاناة والتي تحتاج توثيقًا وأرشفة لتبقى في ذاكرة الحاضر.