ملاحظات قانونيّة في ظلّ الحرب الأخيرة
هناك من الناس من يظن ويعتقد أن القوانين والسياسة التي تنتهجها الشرطة ضد المواطنين العرب في الشهر الأخير هي وليدة حالة الطوارئ التي تعيشها البلاد ونتيجة اعلان الحكومة الاسرائيلية الحرب على غزة وفق قانون أساسي الحكومة لكنهم بذلك جانبوا الصواب.
أربعة أيام فقط بعد الاعلان عن اقامة الدولة، تم اعلان حالة الطوارئ في البلاد. مع مرور الزمن تم تضمين هذه الصلاحية في قانون اساس الحكومة، وحتى يومنا هذا يتم تمديد حالة الطوارئ في البلاد بشكل ثابت، مما يعطي الحكومة صلاحيات استثنائية.
ما تغير في الآونة الأخيرة هي فقط الظروف، فبعد الأحداث الاخيرة، دخلت الدولة في حالة استنفار قصوى وتغيرت الظروف من ظروف عادية لظروف حرب. من المعلوم أن السياسة العامة في الدولة هي وليدة الظروف التي تمر بها البلاد، بمعني أن الدولة في ظروف معينة من الممكن أن تتغاضى عن أعمال في عرف القانون ممنوعة لأن ظروف الدولة تحتمل مثل هذه الأفعال وعليه تتجنب صب مجهودها في مثل هذه الأفعال.
اما مع تغير الجو العام أو ظروف المنطقة، فقد تقرر الدولة محاربة مثل تلك الافعال لأنها تحمل بتقديرها ضررًا كامنا كبيرا وعلى نفس المنهج تسير المحاكم وتصدر الأحكام.
بالمثال يتضح المقال: فمثلا قبل الحرب الأخيرة كانت الشرطة تفرج عن عمال ضفة ضبطتهم في البلاد للمرة الاولى دونما تصريح، ومن يقدم منهم ضده لائحة اتهام يحكم عليه بأيام معدودات في السجن وأحيانا بعقوبة مستقبلية. لكن وبعد الحرب الأخيرة تم تشديد الأحكام في مثل هذه القضايا بحيث قررت المحاكم أن العقوبة يجب أن تتراوح من شهرين لسبعة شهور سجن فعلي. أضف إلى ذلك أن الشرطة أخذت تعتقل حتى عامل الضفة الذي يضبط للمرة الأولى دونما تصريح في البلاد وتحوله للنيابة لتقديم لائحة اتهام.
ماذا تغير؟ القانون لم يتغير، لكن الظروف تغيرت مما حذا بالسلطات تشديد سياساتها بخصوص تطبيق القانون والمحكمة شددت من عقوباتها، لأنه من وجهة نظر المؤسسات أصبحت هذه الظاهرة تشكل تهديدا للأمن. لم يقف الامر عند ذلك، بل تجاوزه لإغلاق مصالح تجارية تشغل عمال ضفة دونما تصاريح.
ما نستنتجه مما ذكر أن تفعيل القانون ومستوى العقوبة هو وليد الظروف وليس فقط نص القانون.
مثال آخر: بعد حرب سنه 2014 بدأت النيابة بتقديم لوائح اتهام بموضوع التحريض على الفيسبوك الذي بدأ سيطه يلمع ويتنشر في تلك الفترة. استندت النيابة في ذلك إلى تقارير استخباراتية تشير بأن المنشورات على الفيسبوك تؤثر سلبا على المشاهد بحيث تشجعه على القيام بأعمال تمس بالأمن والنظام العام مستندة في ذلك إلى اقتباس تحقيقات مع معتقلين أشاروا في أقوالهم الى انهم تأثروا بما شاهدوه على منصات التواصل الاجتماعية. في البداية كانت العقوبات خفيفة، ولكن مع ازدياد انتشار وتأثير مواقع التواصل الاجتماعية زادت حدة الاحكام وضاقت المساحة المسموحة.
الشيء بالشيء يقرن، فقانون مكافحة الارهاب هو قانون ساري المفعول من تاريخ اعلانه في سنة 2016. البند المركزي في القانون والذي تتمحور حوله اغلب الاعتقالات اليوم هو بند رقم 24 من ذلك القانون ولهذا البند بنود فرعية كثيره. مستوى العقوبة الاقصى المنصوص عليه في هذا القانون يتدرج من سنة، سنتين، ثلاث سنوات، خمس سنوات. حيث ينص القانون مثلا على عقوبة اقصاها خمس سنوات سجن لمن ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي تحريضا للقيام بأعمال ارهابيه او يقوم بنشر مناشير داعمه لأعمال ارهابيه في ظروف التي قد تؤدي بالآخرين للقيام بأعمال تمس امن الدولة. بند أخف وطأة هو بند نشر شعارات او تأييد لتنظيم محظور حيث تصل عقوبته لثلاث سنوات سجن.
في تاريخ 12.11.2023 تم اضافة بند جديد ساري المفعول لمدة سنتين قابلة للتمديد، يجرم بمخالفة عقوبتها القصوى سنة، لمن يثبت بحقه انه يستهلك بشكل دوري مضامين حماس او تنظيم داعش في ظروف تشير انه يتماهى مع أحد هذه التنظيمات، شريطه ان يكون المحتوى الذي يشاهده أحد ثلاث: توثيق لأعمال ارهابيه ضد امن الدولة، دعوة او تحريض لمثل هذه الافعال، امور داعمة لأعمال ارهابية.
منذ اندلاع الحرب الأخيرة، قدمت عشرات لوائح اتهام ضد مواطنين عرب قاموا بنشر تغريدات او مناشير تشير بشكل مباشر او مبطن الى دعم تنظيم حماس المحظور، وكما تم تقديم لوائح اتهام ضد من أشاد بأحداث السابع من أكتوبر. اللوائح قدمت تحت مظلة بند 24 اعلاه. وهناك سياسة تشديد بهذا السياق، حتى ان وضع اشاره اعجاب على منشور محظور قد تؤدي بصاحبها الى المساءلة والفصل من العمل، او حتى رسالة على مجموعة واتساب عائلية قد تتسبب بمشاكل قانونية تصل الى حد تقديم لائحة اتهام وفق مضمون الرسالة. اضافة الى ذلك حتى المنشورات الضبابية اصبحت في دائرة المسائلة القانونية وان لم تفض الى لائحة اتهام.
وانتهجت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية سياسة مماثلة، حيث أصبح من يقوم بنشر اي صوره فيها دعم لغزة كشعب او كأطفال يقع تحت طائلة المحاسبة، وقد يفقد أحدهم وظيفته او مكانه كطالب جامعي بسبب وضعه لإشارة اعجاب (لايك) على منشور قد يفسر على محمل دعمه للإرهاب، وان كان قد وضع اشارة الاعجاب ساهيا وعن غير قصد فعليه تبرير ذلك ليبقى في منصبه.
اما بما يخص بحق التظاهر فقد تم تقليصه في هذه الظروف ومنعه، ومسوغات الشرطة في هذا المضمار هي عدم وجود قوات كافيه لديها لضبط النظام في المجتمع العربي لانشغال قواتها في حفظ الامن العام في ظل الحرب المشتعلة وخصوصا ان اي مظاهره في المجتمع العربي قد تتحول لمظاهرة عنيفة من التجارب السابقة، وفق ادعاء الشرطة. حتى ان الشرطة منعت وقفات احتجاجية لا تحتاج ترخيص قانوني بادعاء ان مثل هذه الوقفات قد تتحول الى مظاهرات عنيفة. وأيدت المحكمه العليا الاسرائيلية موقف الشرطة المذكور بما يتعلق بمنع المظاهرات واقتبست هذا القرار محاكم اخرى في دعمها لموقف الشرطة الرافض للوقفات الاحتجاجية. مـؤخرا سمحت المحكمه العليا القيام بمظاهرة مشتركه لنشطاء عرب ويهود لوقف الحرب في تل ابيب بشروط.
وعلى أرض الواقع اليوم، هناك اعتقالات كثيره بكل ما يتعلق بمناشير على منصات التواصل الاجتماعي مثل إنستجرام وتويتر، وحتى ان نشر اي منشور غير قانوني في ما يسمى "الستوري" او "الحالة" في الواتساب يؤدي الى اعتقال وتحقيق. ومثال ذلك لائحة اتهام قدمت ضد شاب من المثلث بانه: "قام بنشر فيديو داعم للإرهاب على الحالة في الواتساب وبعث نسخه منه لقريبته"، حيث انه وبسبب هذا النشر رفضت المحكمة الافراج عنه بشروط حبس منزلي لدى اقارب له لعدم اقتناعها بان بديل الاعتقال الذي طرحه المعتقل يضمن عدم نشره منشورات اخرى. وفي حالة اخرى اصرت المحكمة ان يرسل المعتقل لضابط السلوك قبل صدور قرار بطلب اعتقاله بعد ان اتهم بمناشير داعمة للإرهاب. كما وتم مسائلة صحفية قامت بكتابة منشور "انا لله وانا اليه راجعون" من قبل الشرطة، ولما شرحت لهم ان والدتها توفيت من قريب تفهمت الشرطة الامر. مثال اخر لطالبة جامعية فصلت من جامعتها لوضعها اشارة اعجاب على منشور تحريضي وبعد مثولها أمام جلسة طاعة في الجامعة أعيدت لصفوف الجامعة بعد ان ادعت انها لم تقصد وضع اشارة اعجاب وانه على ما يبدو ضغطت عليه سهوا.
الأمثلة كثيره لكن المشترك فيها أن توجه المحاكم هي الاعتقال في ملفات النشر على منصات التواصل الاجتماعي، الا ان أمكانية عرض بديل اعتقال امام المحكمة بموجبه يمنع المعتقل من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي او ضوابط اخرى قد تقتنع بها المحكمة.
قبل ان اختم من المناسب بمكان ان انوه ان القاصرين دون الثامنة عشرة من عمرهم ليسوا بمنأى عن المسائلة القانونية. وان هناك تخوف من اختلاط الامور على الناس، وان يتم التحقيق مع اشخاص على منشورات قصدوا فيها اشياء معينة او كتبت بسياق مناسبات شخصية وليس وفقا لما تم تأويله من قبل الشرطة، مما قد يقوض حرية التعبير عن الرأي بما يتعلق بالأمور التي لا علاقة لها بالحرب اطلاقا.
في ظل هذه الظروف يقع على كاهل القانونيين حمل كبير لتوعية الجمهور وتوضيح الوضع القانوني الراهن وتبعاته. كما ان على المؤسسات الحقوقية التصدي لاي قانوني غير معقول وغير منطقي يتم سنه في هذه المرحلة الحرجة، من خلال الهيئات القانونية المختلفة.
المحامي محمود خلدون جبارين
محامي مزاول للمهنه منذ العام 2001. حاصل على لقب اول وثاني في القانون من الجامعة العبريه في القدس. متخصص في القضايا المدنية والجنائية وحقوق الإنسان.