هبة الكرامة وحملة الاعتقالات في عكا
إزاء حملة الاعتقالات بين شبابنا العرب في مدن مختلفة كحيفا واللد، قررت الانضمام إلى مجموعة محامين ومحاميات عرب مخلصين تعاونوا لتقديم خدمات قانونية مجانية لشباننا وشاباتنا الذين اعتقلتهم الشرطة. هرول المحامون إلى محطات الشرطة وقاعات المحاكم لتمثيل المعتقلين والدفاع عنهم.
كان ذلك قبل أيام معدودة من الحادي عشر من مايو/ أيار 2021، حيث لم يخطر ببالي حينها انني سأقدم هذه الخدمات لأبناء بلدي في عكا.
فبعد إنهاء وجبة الإفطار في بيت أهلي في عكا، سافرت إلى حيفا للقاء زملائي في دراستي للقب الثاني، وجميعهم من اليهود. وبينما كنا نعمل معا لتحضير وظيفة في إطار التعليم، بدأت الفيديوهات تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعية المختلفة. وكان بين أبرز الفيديوهات توثيق لما يجري في عكا. كان موقف يمتزج فيه الحرج بالفخر. لم استوعب حينها حجم الموضوع، لكن سرعان ما بدأت استرجع ذكرياتي الشابة عما حصل في يوم الغفران عام 2008 في عكا.
في الليلة الأولى قامت شرطة عكا باعتقال عدد كبير من الشبان. وقد فعلت ذلك دون الاعتماد على أدلة كافية. تم اعتقال كل من كان متواجداً قريباً من المواجهات بين المحتجين وقوات الشرطة. بعض هؤلاء الشباب تم الافراج عنهم في صباح اليوم التالي دون عرضهم على المحكمة، ولكن الشرطة استعملت صلاحياتها بشكل قاس واشترطت إطلاق السراح بالإبعاد عن عكا لفترات تتراوح بين أسبوع وأسبوعين أو الحبس المنزلي لمدة تراوحت بين خمسة وعشرة أيام.
أما القسم الآخر، وهو الأكبر، فقد تم عرضه على المحكمة.
بالتعاون مع محامين آخرين من عكا وضواحيها كنا حاضرين في المحكمة باكراً لتمثيل أبناء بلدي. كانت أجواء مشحونة، ولكنها لم تخلُ من اللحظات المبهجة خصوصاً كلما تقرر إطلاق سراح أحد الشبان إذ كانت تعلو هتافات الفرح وكأننا حققنا إنجازاً وطنياً ذا قيمة عالية.
بالنسبة لي كان لتمثيل المعتقلين على خلفية هبة الكرامة طعم خاص، وذلك لكوني محامياً متخصص بالقانون الجنائي، ما منحني امتيازاً لتمثيل شبابنا بشكل مهني. فقد شعرت حينها أن فرصتي للتضحية لأجل هويتي الفلسطينية قد أتت. وعزمت على أداء واجبي على أحسن وجه.
الاعتقالات في عكا على خلفية هبة الكرامة لم تتوقف (حتى يومنا هذا) بل أصبحت أكثر حدة وخشونة يوماً بعد يوم. وما جعل لهذه الاعتقالات ميزة خاصة هو تدخل جهاز المخابرات – خطوة لم يتوقعها أحد وصدمت الجميع. فكان القلق يسيطر على أذهان العائلات حيث انقطع التواصل بين المعتقل وأهله، وحتى بين المعتقل ومحاميه.
قرر جهاز المخابرات منع المحامين من مقابلة المعتقلين الذين كانوا متشبه بهم بالمشاركة في أعمال على خلفية قومية أو أعمال وصفتها الشرطة بأنها إرهابية.
انتشرت أخبار تفيد بأنّ محققي جهاز المخابرات يستعملون حيلاً بهدف إخضاع الشباب وانتزاع الاعترافات منهم. في البداية ظننا أنها مجرد شائعات، ولكن تبين لنا أن هنالك شباناً من يافا قد اعترفوا فعلاً بضلوعهم في أعمال خطيرة وبعد اعتقال دام شهراً أو شهرين وتقديم لائحة اتهام ضدهم، تم إطلاق سراحهم وإلغاء لوائح الاتهام ضدهم؛ وذلك بعد نشر فيديو يؤكد عدم مشاركتهم في هذه الأعمال.
فكرة تدخل المخابرات في التحقيقات كانت تثير الخوف والقلق والشعور بخيبة الأمل من الدولة والقادة العرب. فقد شعرت العائلات بأن الشرطة والمخابرات تتعاملان مع أبنائهم كأعداء للدولة.
لم يكن لدى الشباب أية فكرة عن طريقة التحقيق لدى المخابرات وما هي الوسائل التي تستخدمها، مما جعل العديد من الشباب يدلون بالاعتراف والتبليغ عن شباب آخرين حتى في يوم التحقيق الأول.
للأسف، العديد من الشباب لا يملكون معلومات كافية عن حقوقهم كمعتقلين. فعلى سبيل المثال، القانون لا يسمح بمنع المعتقل من التقاء محاميه لمدة تزيد عن واحد وعشرين يوماً. وابتداء من اليوم العاشر فإن صلاحية تمديد المنع هي لرئيس المحكمة المركزية فقط ويحق للمعتقل أن يقدم استئنافاً على هذه القرارات إلى المحكمة المركزية إن كان القرار صادراً عن ضابط المخابرات أو للمحكمة العليا إن كان صادراً عن رئيس المحكمة المركزية.
كان العديد من الشباب يعتقدون بأنهم سينقطعون عن العالم الخارجي لفترة غير محدودة وكان هذا أحد العوامل المركزية التي شكلت ضغطاً على المعتقلين وجعلتهم يسارعون إلى الإدلاء بالاعترافات.
نعم، لجهاز المخابرات صلاحيات كبيرة لكنها خاضعة للقانون، "بطريقة او بأخرى". ومن المهم جداً الاطلاع على القانون ومعرفة الحقوق، لأن لعدم معرفتها عواقب وخيمة.
وسائل أخرى تشتهر بها الشرطة هي استعمال "العصافير"، وبالأخص خلال التحقيق في الملفات الأمنية. فالعصافير هم رجال يعملون مع الشرطة ينتحلون شخصية معتقلين لاستدراج المعتقل للاعتراف بأعماله – تحديداً، كما فعلت الشرطة مع رومان زادوروف الذي تمت تبرئته رغم اعترافه أمام "عصفور" في السجن، وبعد أن قضى في السجن خمسة عشر عاماً.
الهدف الأول لجهاز المخابرات هو منع وإحباط اعمال إرهابية مستقبلية، وغالباً ما يتم استخدام محققي المخابرات حينما يكون الملف ضعيف الأدلة، إذ بدون اعتراف المعتقل من غير الممكن اثبات التهم ضده.
وقبل إنهاء هذا المقال، أود أن أذكر أنه خلال تمثيلي لشباب عكا سنحت لي الفرصة لتمثيل شباب شجعان تبنوا مقولة "يا خوف عكا من هدير البحر"، فلم تُخِفهم الاعتقالات ولا التحقيقات وقد تم الافراج عنهم بعد أسابيع في الزنازين دون تقديم لوائح اتهام ضدهم فعادوا إلى عائلاتهم دون قيود.
تصوير: سيرين محمد جبارين.