جهاز التعليم الإسرائيليّ وقضيّة المواطنة المشتركة

المواطنة المشتركة تعني شراكة مواطنة في فضاء مدنيّ عامّ مشترك لجميع المواطنين في الدولة.

المتمعن في جهاز التعليم في إسرائيل تستدل على أن هذا الجهاز لا ينتهج سياسة التربية لمواطنة مشتركة فاعلة وفعّالة بشكل حقيقي. فتوجهه الفعلي ليس نحو شراكة مواطنة متساوية. عندما ننادي بأنّه من الضروريّ أن يقوم الجهاز وبجميع تياراته باتباع سياسة تربوية تعمل على خلق مواطنة مشتركة فاعلة فإنّنا لا نقصد أبدًا إبطال، أو الغاء الخاصّيّة الدينيّة، أو القوميّة العرقيّة، أو الثقافة لأيّ فئة، أو تيّار تربويّ من التيارات الفاعلة في جهاز التعليم الإسرائيلي. ولكنّ المواطنة، في إطار أيّ دولة، تشكّل في الواقع القاعدة الأساسية للمواطنة المشتركة بين مواطني تلك الدولة.

من الشرعيّ ومن حقّ المواطنين أن يكونوا مختلفين بأيّ شيء، طالما أنّ القاعدة الموحّدة لهم هي المواطنة المشتركة المتساوية. إنّ الشرط الأساسيّ الضروريّ للمواطنة المشتركة المتساوية ضمان فضاء عام مشترك قوامه الحقّ والإنصاف والشرعية لكلّ الشركاء وبتساوٍ. 

يُعتبر جهاز التربية والتعليم من أهمّ المجالات التي تعمل على تعزيز المواطنة المشتركة فاعلة. يُقسم جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي في شكله الحاليّ إلى أربعة اشكال من حيث الهيكل والمضمون: حكوميّ، حكومي ديني، ديني مستقلّ، حكومي عربيّ (وهو يقبع تحت إشراف وتفتيش التعليم الحكوميّ العامّ). هذا الفصل ليس بنيويًّا (هيكليًّا) فقط، وهو لا يؤدّي إلى فجوات في الحصول على الموارد المادية وحسب، إلّا أنّه في الأساس فصل واختلاف في الروايات والمفاهيم المتنازَع عليها. وهي التي تصمّم السياسة التربوية المنعكسة في مناهج التعليم من جهة، وفي جودة السيرورة التعليمية ككلّ ونتائجها من جهة ثانية. يخلق هذا الفصل والاختلاف على أرض الواقع ساحات وفضاءات مدنية متباعدة ومتباينة. إنّ الفصل والاختلاف الموجّهين يؤدّيان إلى تفكير نمطيّ مقولب، ويرسّخان أفكارًا مسبقة والتي من المؤكّد سيكون لها إسقاطات وعواقب مستقبلية على الوضع المدنيّ للفئة المهيمنة مقارنة بالفئة المستضعفة (المجتمع العربيّ في إسرائيل في هذه الحالة). كما أنّنا نعتقد أنّ جهاز تعليم منفصل ومقسَّم سيشكّل حافزًا لمجتمع مجزَّأ، ومشرذم يسيطر عليه الاغتراب والإقصاء. من هنا انبثقت الفكرة في أوساط بعض منظمات المجتمع المدنيّ بشكلِ أساسيّ، عن الحاجة إلى تكوين نواة تربوية وقيمة مشتركة أساسها المساواة والانصاف والشرعية التي تستمد من المواطنة المشتركة. إلّا أنّ الواقع يثبت لنا مرارًا وتكرارًا أنّه قد يكون من السهل بناء نواة تربويّة حول قضايا ليست محلّ نزاع؛ مثل التخصّصات في المجال العلمي، ومن السهل أيضًا بناء نواة قيمية مشتركة حول قيم عامّة (قد نستثني التيار اليهوديّ المتديّن المستقل). إلّا أنّه سيكون من الصعب، وربّما من المستحيل تصميم سياسة المواطنة المشتركة في الواقع الإسرائيليّ المتّسم بالتشرذم القوميّ والعرقيّ، واقع فيه الأكثريّة اليهودية تستحوذ على المواطنة الواسعة لنفسها فقط. وذلك من خلال التأكيد على يهوديّة الدولة. لهذا لن يكون الحوار صعبًا عندما يدور بين حول الانقسامات الموجودة في المجتمع اليهوديّ؛ بين اليهود الشرقيين والغربيين أو بين المتديّنين والعلمانيين، إلّا أنّ التحدّي الحقيقيّ والمثير للمجتمع الإسرائيلي بكلّيّته هو الحوار المتعلّق بالمجتمع العربيّ في إسرائيل. هنا تثار مسألة الحق في المساواة وشرعيّة الآخر.

إنّ تصميم سياسة موجّهة لمواطنة مشتركة فاعلة وواسعة النطاق تتطلّب ضمان حقوق متساوية ومنح شرعيّة للآخر المختلف، لجميع المواطنين والمجموعات، دون التفريق بينهم بحسب انتمائهم القوميّ، العرقيّ الدينيّ والثقافيّ. وعلى هذه الأمور الأساسية هنالك خلاف ليس في النظام (الجهاز) السياسي فحسب، بل أيضًا في الجهاز التعليميّ الذي من المفترَض أن يبني مجتمعًا ديموقراطيًّا يقوم على مبدأ المساواة كشرط أساسي لمواطنة مشتركة.

إنّ هذا الواقع يسبّب صعوبة في تصميم سياسة تتيح لجهاز التعليم لدعم هويّة الطالب العربيّ واعتزازه القوميّ كما حصل لنظيره اليهوديّ.

هذه القضية وكلّ ما يتعلّق بها معروفة وطُرِحَت كثيرًا في ادبيات تربوية عديدة. كما أنها معروفة لواضعي التوجّهات السياسية في وزارة التعليم. وبحسب معلوماتنا فإنّ بعضًا من وزراء التربية والتعليم في إسرائيل تناولوا هذه القضية، بل وقدموا مقترحات لإعادة تشريع أهداف التعليم في إسرائيل، كالقانون المقترح الذي سنَّه بروفيسور "روبنشتاين" عام 2001. إلّا أنّ هذا التعديل للقانون لم يؤدِّ إلى تغيير حقيقيّ في السياسة وبالتالي لم يؤدِّ إلى تغيير جذريّ في مناهج التعليم. كما يجدر التنبيه إلى أنّ القانون بصورته لم يرضِ التربويّين العرب ولا المؤسّسات التي تمثّلهم. منذ قيام الدولة اهتمّ جهاز التعليم في إسرائيل بترسيخ الهويّة اليهوديّة الصهيونية، من خلال الأهداف التربوية، ومناهج التعليم، والأنشطة المواكبة للسيرورة التربويّة المؤسّساتية. ومع ذلك، في العقد الأخير، فإنّ وزراء التعليم اليمينيّين (سياسيًّا) ينادون بتعزيز الهويّة اليهوديّة الصهيونية عند الطالب اليهوديّ، وفي ذات الوقت الحفاظ على الوضع القائم فيما يتعلّق بتشكيل الهوية لدى نظيره العربيّ الفلسطينيّ. في الوقت ذاته، في العقد الماضي، تمّ طرح وسنّ العديد من القوانين التي تُضعِف المواطنة المتساوية للمواطن العربي في دولة إسرائيل.

في ظل هذا الواقع المعقّد، وعندما تقوم الأغلبية اليهودية المتجانسة بالتمسّك بمواقفها، بل وتمارس سياسة تقليص مساحة المواطنة المشتركة، وفي المقابل تسعى الأقلّيّة العربيّة المستضعفة إلى تغيير واقعها من خلال توسيع مساحة المواطنة المشتركة، من الطبيعيّ أن نتوقّع حالة نفور واغتراب يزداد بين المجموعتين، ما لم يتمّ تبنّي نهجًا بديلًا مغايرا.

بروفيسور خالد أبو عصبة

محاضر في الدراسات العليا في الجامعة العربية الأمريكية في جنين ومدير معهد مسار للأبحاث الاجتماعية والتربوية

شاركونا رأيكن.م