حكومة نتنياهو الجديدة: شطب القضية الفلسطينية من الأجندة الإسرائيلية
بات شطب القضية الفلسطينية، ومعها كيان السلطة الفلسطينية، بندًا رئيسيًا في أجندة حكومة نتنياهو الجديدة، في حقبته السادسة في منصب رئيس حكومة إسرائيل، علمًا إنه في الحقبة الأولى (1996-1999) هو الذي وضع المدماك الأساسي لدفن اتفاقات أوسلو ولتخلص إسرائيل من خيار الدولة الفلسطينية، الأمر الذي استمر عليه في حقبته الثانية (2009ـ-2021)، حين تم تمرير قانون أساس يعتبر أن إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي فقط، بمعنى أن الفلسطينيين لا يتمتعون بحقوق مواطنة متساوية ولا بحق تقرير المصير.
على ذلك، فإن نتنياهو في حقبته الثالثة يواصل ذلك الطريق، مع الأحزاب اليمنية ـ- الدينية المتطرفة، ووفقًا للخطوط العامة للائتلاف الحكومي التي نصت على أن "للشعب اليهودي حقًا حصريًا... على كل مناطق أرض إسرائيل...ستدفع الحكومة الاستيطان وتطوره في جميع أنحاء أرض إسرائيل، في الجليل والنقب والجولان ويهودا والسامرة، أي الضفة الغربية."
ويفسر سيفر بلوتسكر تلك التوجهات بقوله: "هذا المفهوم للسيطرة اليهودية الحصرية والمطلقة على كل "أرض إسرائيل"، من البحر إلى النهر، يُقرَّر كلّ شيء. إنها صيغة متطرفة لا مثيل لها في كل الخطوط التوجيهية لحكومات "ليكود" السابقة، من مناحيم بيغن حتى بنيامين نتنياهو. وهي تتعارض مع أيّ احتمال تسوية مع الفلسطينيين - حتى التسوية المتواضعة التي تضمّنها اتفاق السلام الذي طرحه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب". ("يديعوت احرونوت"، 11/1)
ولعل من أهم التطورات الحاصلة في علاقة إسرائيل بالفلسطينيين، بعد تقويضها اتفاق أوسلو، يتمثل بتحولها من مصارعة السلطة على الأرض (في الضفة) إلى مصارعتها على الشعب، أيضًا، عبر قضم دورها واستعادة دور "الإدارة المدنية" والتعامل مع الفلسطينيين في مناطق السلطة كفرادى وبشكل مباشر، بدون وساطتها، بهدف تكريس احتلالها للضفة وإبقاء السلطة عند حدود الحكم الذاتي، وفق مفهوم "السلام الاقتصادي"، أي تحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين، مع احتمال إنهاء دور السلطة لدى توفر الظروف المناسبة، علمًا إن ذلك بات مسؤولية الوزير بتسلئيل سموتريتش (حزب "الصهيونية الدينية").
والفكرة هنا أن حكومة نتنياهو الجديدة تتعامل مع الفلسطينيين كشعب وكعدو، في مناطق 48 وفي الأراضي المحتلة عام 1967، باعتبارها أن لليهود فقط حق تقرير المصير في فلسطين/إسرائيل، من النهر إلى البحر. وهذا يؤكده تسفي بارئيل، في مقال له عنوانه: "حكومة بن غفير وسموتريتش تسعى لإعادة احتلال الضفة"، بقوله: تسعى حكومة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش للعودة إلى أيام الاحتلال الأولى ومحو بقايا اتفاقات أوسلو وإلغاء وجود السلطة... وإدارة منظومة التعليم والصرف الصحي والمياه والكهرباء للفلسطينيين... وإعادة الخليل إلى السيطرة الإسرائيلية المباشرة... ويأمل سموتريتش وبن غفير بألا يبقى للسلطة خيار غير الاستقالة...هناك قرابة 100 ألف عامل فلسطيني من الضفة يعملون في إسرائيل، بالإضافة إلى آلاف من الذين يعملون من دون تراخيص... والحصيلة...وقف التنسيق الأمني مع السلطة. يسلّم محمود عباس مفاتيح السلطة". ("هآرتس"،12/1) وكان بارئيل تساءل في مقال سابق له: "كيف سنقنع العالم، الآن، بأن الصهيونية ليست من أشكال العنصرية؟!". ("هآرتس"، 29/12/2022)
بديهي أن حل السلطة، أو اضمحلالها بطريقة أو بأخرى، وحتى لو بقيت مجرد كيان شكلي، سيفتح صفحات جديدة للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. فهذه المرة ستمحى الفواصل أو الحدود بين فلسطينيي الضفة والقطاع و48 في صراعهم ضد إسرائيل، كما ستغدو إسرائيل، فعليًا ونظريًا، دولة ثنائية القومية في نظام أبارتهايد، وهو الأمر الذي باتت منظمات حقوقية دولية تتحدث عنه صراحة، مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي ومفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وحتى منظمة بتسيلِم الإسرائيلية، بما يعني مطالبة الفلسطينيين بحق تقرير المصير وبالحقوق الوطنية والمدنية، الفردية والجمعية، ناهيك عن تأثيرات ذلك على المجتمع اليهودي ذاته، كما عن احتمال اندلاع مواجهات فلسطينية - إسرائيلية جديدة، على شكل انتفاضة ثالثة أو هبات شعبية، أو أي شكل آخر.
وهذا ما حذر منه نحاميا شترسلر بقوله: "الاتفاقات...التي وقع عليها نتنياهو مع الفصيلين الكهانيين..."الصهيونية الدينية" و"قوة يهودية"، تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية...وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش...سيكون المسؤول عن الإدارة المدنية...في "المناطق"، وهكذا سيسيطر على توسيع المستوطنات وشرعنة البؤر الاستيطانية وقمع 2.5 مليون فلسطيني...إلى جانبه إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، الذي حصل على صلاحيات غير مسبوقة لوضع سياسة الشرطة...ما سيؤدي إلى انتفاضة ثالثة. هكذا فإن هذين الكهانيين سيدمران أي فرصة لاتفاق سياسي" ("هآرتس"، 7/1).
على أية حال، ما تقدم لا يعني أن إسرائيل تغيرت كثيرًا، فالحديث يجري على مستويين، المستوى الأول يتعلق بالفلسطينيين، حيث انتهجت كل الحكومات الإسرائيلية سياسة معادية لهم، لوجودهم ولحقوقهم، مع سياسات تعزيز الاستيطان والاعتقال الإداري وتهديم البيوت وانتهاك حرمة الأماكن المقدسة والقتل (في العام الماضي مثلًا قتل حوالي 230 فلسطينيًا برصاص الجيش الإسرائيلي والمستوطنين)، لكن بعض الحكومات كانت تعمل كل ذلك بقفازات ناعمة (إن جاز التعبير) وبخطاب لا يقطع مع السلطة الفلسطينية، في حين أن الحكومة الحالية تضم أشخاصًا من عتاة المستوطنين الذين ارتكبوا جرائم، أو حرضوا، ضد الفلسطينيين والذين يعتبرون أن لا حق لهؤلاء في بلدهم. أما المستوى الثاني فيتعلق بانكشاف إسرائيل على حقيقتها، بدون ادعاءات العلمانية والديمقراطية والحداثة وكامتداد للغرب في المنطقة، إذ أن أركان تلك الحكومة لا تهمهم كل تلك الادعاءات ويصرون على تهميش كل ماله علاقة بالعلمانية بدعوى الديمقراطية (الفوز بالانتخابات) ولصالح إسرائيل كدولة يهودية، أو كدولة لليهود فقط، حتى لو كانت دولة عنصرية ودينية ولا ديمقراطية.