في البحثِ عن الثقافة: بدايات تأسيس مشهد ثقافيّ في رهط
لعلّ المتأمل في المشهد الثقافي العربي "البدوي" في الجنوب يلحظ إصرارا كبيرا على إيجاد حيزا للفعل الإبداعي والمعرفي للحركة الثقافية الوطنية المحلية. كذلك يلمح قدوم المارد الثقافي على أكتاف القيادة المحليّة في مدينة رهط، التي أصبحت ملاذا لسدّ الفجوات والحاجة الثقافية لدى الأفراد والمجموعات.
عندما نكتب أو نتحدث عن الثقافة ماذا نقصد؟ ما هو الوعي الذي يقف وراء هذا الفعل، مثالًا حينما نكتب عن الثقافة السياسية، هل نقصدُ التأثير على المجتمع والأفراد، هل نودّ تغيير الممارسة والعادات السياسيّة، أم أنها مجرد شعارات تؤتي أُكلها في صراعات داخليّة وبما ويروق لبعض الأفراد والمنتفعين.
هل يجوز لنا الحديث عن دور الثقافة المفترض في حماية الهوية الوطنية من دون التطرق الى الدور المهمّش بل الواجب للمثقفين، أو من دون التطرق لأصحاب القرار والتأثير من السياسيين ومنتجي الثقافة. أعتقد جازما إن هذه الأسئلة وغيرها مطروحة بقوة وبحاجة لرؤية بعيدة المدى وبحاجة مُلحه لإجابات تدعم مستقبل المشهد الثقافي المحلي في الداخل الفلسطيني وفي النقب خاصة.
كذلك أيضا نكتب ونتحدث عن جيل " الجاهزية"، جيل الثقافة الجاهزة إن جاز التعبير، جيل الوجبات السريعة "الجاهزة"، جيل الملابس ذات العلامة التجارية "الجاهزة"، وأيضا جيل الألعاب "الجاهزة" بحيثُ لم يعد الأطفال يصنعون ألعابهم بأيديهم، كما لم تعد الأمهات تفصل أو تحيك الملابس، فلا مجال للإبداع ولا قدرة على التخطيط والتنفيذ. هكذا ضاعت فرحة الإنجاز والشوق إلى اللقاء. فلم يعد البعد فراق وحنين، ولا الوصل سعادة وسرور، ولا الوحدة زهد وعبادة، فلا بدّ من العودة الى كل ما هو أصيل وكل ما يحيي عبق الماضي وسحر ذكريات الزمن الجميل.
الوجبات "السريعة".. ثقافيًا؟
الكثير منا يرى دور المثقف ودور الطبقة الوسطى ذو أهمية أساسية في خلق هوية جماعية قومية كهدفٍ بالغ الأهمية بحكم عملهم في تصدر الموقف وفي نتاج الثقافة كالكتاب والشعراء والروائيون من خلال نشراتهم وإصدارتهم يتولون دورا أساسيا وحاسما في نتاج وتصورات المجتمع بأسره، في بناء هوية مجتمعية، في إثراء روح الشعب برموزٍ وقيم ورؤى اجتماعية وفي ترتيب وبناء حدود، أو التحذير من ثقافاتٍ دخيلة معادية ومسائل تُهدد النسيج المجتمعي المتكامل.
في هذا الصدد، كتبَ الدكتور علاء مشذوب كتابا عنوانهُ "رصيف الثقافة" وشرح من خلاله وضوح المشهد الثقافي العراقي وغزارة إنتاجه في الفلسفة والتصوف ومدى إدراكه لتاريخ الأمم الأخرى وجهلهِ في الوقت نفسه لتاريخ شعبهِ الثقافي واللغوي والعقائدي، ولفت بعجالةٍ لأهمية المقاهي عبر التاريخ على الثقافة، بدءًا من أصل التسمية في معجم المعاني.
فالمقهى يعرف بالمكان العام الذي تقدم فيه القهوة ونحوها من الشراب ويعود أصل التسمية الى كلمة "القهوة" التي كان يشربها العرب في مضايفهم والتي هي عبارة عن خيمةٍ مستقلة أو جزء من بيت الشعر ما نعرف اليوم بالديوان أو "الشق " أي الجزء. فنتيجة نزوح بعض البدو إلى المدن فقد اصطحبوا معهم القهوة وكثيرا من عاداتهم وتقاليدهم ومنها القهوة المرة. فكانت المقاهي بمثابة الرئة الثقافية للكُتاب على مر التاريخ وهي الرئة التي يستنشقون ويستشفون فيها آخر صيحات الأدب، أو يستمعون إلى أبيات من الشعر، أو تكملة لرواية وحبكة لقصة، كما أن تجاذبهم إلى أطراف الحديث وتبادل الآراء تنتج أفرادا وتكتلات وانتماءات ينبثق منها مشاريع ثقافية لاستصدار مجلة، أو جريدة، أو بزوغ عمل ثقافي، او منتدى فكري ثقافي. وهنا نسأل، ماذا عن مقاهينا اليوم فحدّث ولا حرج فهل يجب أن نعود إلى كل ما هو جميل وأصيل أم لا؟
قهوة على الرصيف
يُعرف الرصيف في المكان المرتفع قليلا على جانبي الطريق للمشاة، وهنالك أرصفة من نوع آخر مثل رصيف الميناء الذي يمتدّ مع طول الشاطئ، ورصيف القطار الملوّن بالأصفر كعلامةِ إنذار ورصيف الجزيرة الوسطى الذي يفصل بين الشارعين وغالبا ما يكون عبارة عن حاجزٍ من الباطون أو حاجزا حديديا لمنع العبور. بالمقابل، الثقافة هي مرافقة لمراحل تطوّر الانسان في بيئتهِ المحيطة إلى أن بلغت رشدها مع تمدنه فقد أصبحت سلوكا يتّصفُ به المجتمع المدني الذي يعبّر من خلالهِ عن مدى نضجهِ لتبادل التجاذبات الاجتماعيّة والسياسيّة كذلك الالتفاف حول ما هو مشترك للبحثِ عمّا يُحدد المكانة الاجتماعية من خلال تلك الممارسات. أما في المجتمعات المحافظة ربما تكون الثقافة إحدى المحاذير التي ينظر اليها بعينِ الممنوع وبحكم الحرام أحيانا، هكذا يتحتم على القائمين على الأنشطة الثقافية عدم التمرد على القيم المجتمعية والحفاظ على الأسس والمبادئ التي لا تأتي بفساد أخلاقي وتترك خلفها عادات وتقاليد بالية وتخطو نحو سموّ مجتمعي وطني ثابت.
فما هي الثقافة وماذا نقصد بها؟ ثمة من بلخّص الثقافة -على نحو غير مُحكم- أنها عبارة عن مركّب من القيم والعادات والتقاليد والمعتقدات والممارسات التي تُشكل طريقة ونهج حياة جماعة معينة من البشر، وأخرون يرون أن الثقافة بحسب التعريف الانثروبولوجي هي "ذلك الكلّ المركّب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعُرف وغير ذلك من المقدّرات والعادات التي يكسبها الانسان بوصفهِ عضوا في مجتمع، فعبارة "غير ذلك من المقدّرات" تفتحُ أبوابا لا سيطرة عليها وتبلغ حدّ التهور والتمرد والدخول في متاهات نحن بغنى عنها.
المبادرة الثقافية في صحراء النقب
المكتبة العامة رهط هي مثالٌ حي ومباشر على إنشاء مبادرات ثقافية، حتى كتابة هذه السطور وعلى الرغم من حداثة عهدها كونها أنشأت متأخرا قياسا بمؤسسات المدينة الأخرى (تأسست في 2019) إلا أنها تحوي ما يزيد على عشرين ألف كتاب موزعة في شتى المجالات والتخصصات الأدبية والعلمية وغيرها من سائر المواضيع وتعمل المكتبة جاهدة على توفير المزيد من الكتب فيها وعملت على إصدار وتشجيع الإصدارات المحلية منذ تأسيسها.
بدأت المسيرة بإصدار كتاب "من كلّ واد عصا" بمناسبة أيّام رهط الثقافية والإصدار الأول للصالون الأدبي "بواكير" من الشعر والأدب وأيضًا "معجم الألفاظ العاميّة في النقب" الفريد من نوعهِ للأستاذ الشاعر صالح الزيادنة، كما البحث الميداني للباحث موسى حجوج "الهجرة إلى الجنوب" الذي يوثّق حقبة لا بأس بها من تاريخ التربية والتعليم في منطقة النقب ويؤرخ دور معلمي الشمال ودورهم في رفع المسيرة التربوية في النقب عامة وفي رهط خاصة، "ورسائل على الرمال" للكاتب سليمان السرور و "نشيد البيادر" وإصدار كتاب تخليدا للراحل الأستاذ عضو البرلمان سعيد الخرومي، ومسك الختام بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية "لغة الضاد". قد جاءت المكتبة العامة في رهط لتلّبي رغبات الكثير من أبناء المدينة وضواحيها، الذين كانوا يتعطّشون لمنهل يوفّر لهم مصادر العلم، والثقافة، وأمهات الكتب، والمراجع.
أيام رهط الثقافية والصالون الأدبي
وضعت إدارة المكتبة العامة رهط نُصب أعينها رؤى وأهداف لا تتوانى في تحقيقها ماضية بخطى ثابتة ومساع حثيثة من أجل جعلها في حيز التنفيذ وموضع التطبيق ولا تألو جهدا في خدمة المواطن بشكلٍ حضاريّ يليق به متمثلا بتوفير الكتاب، باعتبارهِ نواة المعرفة الأولى في بناء "المواطن الواعي" مسلحا بالمعرفة، فضلا عن حوسبتها وربطها بشبكة المعلومات كدمجٍ بين ثقافة الكتاب وتعزيز الثقافة الرقمية والتأكيد على العلاقة التكاملية بينهما.
علاوة على إعارتها الكتب للمواطنين من مختلف الفئات العمرية وعلى اختلاف مشاربهم دأبت المكتبة ولا تزال على عقد أمسيات ثقافية لتكون بمثابة حلقة الوصل بين الكتاب والمؤلفين والأدباء والشعراء من جهة، وبين المواطن من جهة أخرى لتثري فضاء المدينة بعبق النقاش الحضاري والأدبي السامي ومساهمة في إثراء الكبار من المهتمين وصقل مواهب وشخصيات الشباب وبلورة الملامح الثقافية للمواطن وفي كل الحالات تشجيعهِ على المطالعة كعادةٍ حضارية وغرس القيم الانسانية السامية كتقبل الاختلاف واحترام الرأي الآخر ومهارة النقاش.
كذلك تجعل من هذه الأمسيات رافعة نحو فضاء ثقافي يليق بالمدينة ومُحفز نحو الاهتمام بالثقافة وإيلائها المكانة التي تليق بها. إضافةً إلى ذلك مشاريع مثل "أيام رهط الثقافة" و"الصالون الادبي" الذي ينعقد مرةً في الشهر منذ ثماني أعوام بإدارة الشاعر وابن النقب الأستاذ صالح الزيادنة ومجموعة مباركة من أبناء الجنوب الحريصين على رفع رسالة القلم عاليا في فضاء الثقافة المحلية والقطرية أمثال الزميل الشاعر سليمان السرور والشاب هيثم العصيبي والباحث القدير الأستاذ موسى الحجوج والمربية سماح أبو رياش وغيرهم.
تأمل معي، كيف تصبح المكتبة بمثابةِ رواق ثقافي لالتقاء ذوي الاهتمامات الأدبية والثقافية وأن تكون وجهة كلّ المواطنين وموئلهم بلا استثناء وعلى تباين وجهات نظرهم وتنوع اعتقاداتهم مما يتيح لهم الفرصة لتبادل المعلومات وخلق رافدٍ ثقافي ممثلا بالسجالات والنقاشات الفكرية والتي تخدم الشأن العام والإطار الأوسع وتميط اللثام عن الملامح الثقافية الراقية والسامية للمدينة.
صالح أبو جعفر
الأمين العام لمكتبة رهط العامة، مبادر ومحفز ثقافي في النقب وباحث دراسات عليا بمجال الثقافة في الحيز العمومي بالاعتماد على المكتبات العامة، حصل مؤخرا على جائزة الدولة التقديرية من المكتبة القومية الإسرائيلية والجامعة العبرية في القدس في مجال الابتكار، ونقل المكتبات الى العالم الرقمي