لماذا يكذب الناس؟

القصة بدايتها قديمة قدم الحاجات البشرية.

تبدأ بذور الكذب حين يأتي ذاك المخلوق البشري إلى العالم.

يولد الطفل مع حاجات أولية، جسديّة ونفسية.. يأت محمّلًا بها إلى عالم من البالغين وظروفهم، بانتظار أن يجد من يقرأ حاجاته، يستجيب لها، ويحتويها.

كما أنه يأتي مزوّدا بمهارات تواصل تعينه على التعبير عن حاجته، لاستدراج رعاية البالغ:

فإن جاع مثلا بكى مناديا، وإن مرض بكى بلحن مختلف، وإن أصابه الملل يفتش عن آخر بمكاغاة وأصوات وكأنه يدعو بها الآخرين لمجالسته.

وحين يكتسب اللغة يبدأ بطلب واضح.

حين يجد الطفل بالغا يعرف كيف يقرأ حاجاته، ويعمل على إشباعها، يدرك بذاته الصغيرة أن هناك اتساقا بين ما طلب، وما أُعطيَ له.

أما إن طال نداؤه دون مجيب، أو إن تأخر الطلب وأحبِط، يبدأ الطفل الغض بالاستسلام، والتخلّي عن ترجمة مشاعره وحاجاته، إذ لا فائدة من الترجمة الصادقة.

وهنا يبدأ البعد الأول عن الذات، بتقبّل ما يُعطى له، فهو محتاج وعليه أن يرضى بأي شيء يسد الحاجة حتى ولو بعد عن الطلب.

رويدا رويدا يتعلم الطفل أن الصدق في ترجمة ذاته لا يأتي أكله، وعليه أن يبدأ بتعلّم قوانين البيئة كي يغذّي حاجاته، بأساليب تعجب الآخرين وتأتيه بإشباع ما.

فتبدأ علامات الـ""تزييف"" الأولى.. تزييف الحاجات الأولية كرما لإرضاء المحيطين، ونيل ما يسد حاجاته.

هذا الزيف نسميه مسايرة ومداراة، فيه إشباع معيّن، ولكنه منقوص، لأنه قد لا يكون كما يريد الفرد.

يواصل هذا الطفل نموّه، وحالة عدم الاتسّاق بين حاجاته والبيئة تشغل مسرحه.

فإن استمرت البيئة في عدم مراعاتها لحاجاته، فقد يلجأ الطفل إلى الكذب مداراة للآخر، من أجل الوصول الى تلبية حاجاته.

وهذا أول كذب: خلق واقع بديل عن واقع هزيل.

قد نسميه كاذبا، وهو ليس كذلك، فهو اضطّر للكذب كي يسد جوعا فعليُّا أو عاطفيَّا.

الطفل بعد الرابعة يملك خيالات واسعة، وما ضاق عنه الواقع يسعه الخيال.

فإن فشل الواقع في التعاطي مع احتياجات الطفل، بدأ الطفل برسم قصص من نسج خياله.. يسمعها البالغون ويستنكرون ""كذبه"".

هو ليس كاذبا، بل يحاول تعويض واقع لا يراه، بواقع يرسمه هو ويفصّله على مقاسه.

فقد يكذب ليأخذ طعاما، أو لعبة.

وقد يكذب ويروي بطولات لم تحصل، يغطي بها عدم كفاءته، لينال إعجابا ويكسب صداقات.

وقد يكذب ويرسم قصرا جميلا، خجلا من بيته المهمل، لينال الإعجاب.

وقد يكذب بتحصيل عال، ليقال عنه متفوّق، لينال رفعة بين أصدقائه.

وقد يكون الكذب من باب حماية الذات:

فيكذب المرء برواية تدرأ عنه العقاب وتنجيه من ألم.

فينسج بكذبه واقعا مغايرا بعيد عن الحقيقة وقد يكون عكسها.

يكذب بتحصيل يرضيهم، فيقيه عقاب الأهل، وقد يكذب بتصريح يعفيه من عقاب قانوني.

وقد يكذب خشية خسران صداقة.

وقد يكذب المرء لتغطية عجزه في مواجهة الواقع،

فبدل أن يغيّر آليات يغيّر رواية المواجهة، ليحفظ لنفسه إنجازات وهمية.

وقد يكذب لإشباع رغبة في الانتصار أو الانتقام.

وقد وقد.. وكلّها تحت عنوان الكذب كآلية دفاعية تقي الفرد مواجهة نقص الذات.. فيحيك قصة لذات متكاملة أو واقع منقوص يسقط عليه أسباب الفشل.

كما أشرت أعلاه، في السنوات الأولى ينضج الخيال، ويكون التمييز بينه وبين الواقع هشّا، وقد لا يفرق الطفل بين الواقع والخيال.

والخيال هو تلك المساحة البينية التي يستطيع الفرد أن يكون فيها بدون التزام للواقع، فيسرح أنّى شاء، ويستلذ كما يشاء.

ما يحركه في رواحه ومجيئه : إشباع الحاجة.

وكل خيال يجلب معه متعة او منجاة من عقاب، يعزز عادة الاستمرار بالـ""كذب""، حتى تتحول إلى مخرجٍ متاحٍ مباحٍ لكثير من الأزمات، ومنفس لكثير من الحاجات.. لتصبح عادة مربحة مريحة.. فبدل تغيير الواقع يستطيع الفرد أن يغيّر رواية الواقع، ليروي لك الواقع كما يريد هو، فما أسهل هذه من تلك.

وهكذا قد يستساغ الكذب ويدرج على لسان المرء. حتى أنه في حالات الكذب المرضيّ، قد يتحوّل إلى جزء من الذات لا يرى به جريمة أو حاجة للتغيير وقد يكون أوّل وأكثر من يصدّق كذبه.

قبل أن يصدّق الفرد كذبته، للكذب ضريبة.

وهي الشعور بالذنب.. فضمير المرء صاح من سن الرابعة وربما قبل ذاك.. حين تدفعه لذّته لتغيير الواقع برواية لا تراعي الآخر، وتنطلق فقط من حاجاته، يبدأ ضميره بالتأنيب وربما الجلد.. فالكذب حرام، وفيه غشّ للآخر، وقد يؤذي وقد وقد..

هذا اللوم يشير إلى أن الكذب ليس جزءا من الذات، وقد يساعد في ضبط الكذب.

تفاجأنا النفس البشرية كل حين، أحيانا تأبى الخنوع

للواقع كما هو، وتحب الكذب لما فيه من تأنيب،

ولكن في النفس تبقى رغبات لا تلقى أذنا تسمعها ولا عينا تراها فما العمل؟

وما المخرج بغياب إمكانيات لتغيير الواقع؟

المخرج: الكذب المازح..

فحين يقنع المرء ذاته بأنه يمزح، يسقط عن نفسه الشعور بالذنب والخوف..

يروي ما يريد، ويحوّل الواقع كما يريد، مشبعا رغبة كامنة لبعض الوقت، دون أن يخِزَه ضميره، أو يلومه الآخرون، فهو يمزح، ومساحة المزح أوسع وأسلم من مساحة الكذب.

في المساحة البينية، في الخيال الفكاهي، لا زال الطفل فينا يبني ويهدم، يؤلّف ويرسم، ليحيك لنا حكايا عن واقعٍ نريده.

""يكذب"" ويستمتع بمشاهدة أثر ما ألّف على الآخرين، منتشيا بانفعالهم مما ألف، ثم يفكك ما حاك ضاحكا:

فهو يمزح.. فتكون المتعة مضاعفة: أولها بالسيطرة، وتاليها بوجبة ضحك مباحٍ اجتماعيًّا لا يتلوه شعور بالذنب.

فالضمير في مساحات الهزل أكثر تسامحا، من مساحات الجدّ.

د. هند إسماعيل

محاضرة، ومرشدة ومعالجة نفسية

شاركونا رأيكن.م