توابل الحكايات.. خُذ من ثمُّه وازرع بطيخ!

هل نكذب للنجو من شر أعمالنا أو لننجو من ورطة ما أو نكذب كشهرزاد؛ لكي ننجو من عنف وظلم الآخرين من ذوي السلطة، أو نكذب لنفوز بقلب من نحب؟ وهل نتخيل لنهرب من الواقع أو لنبدع في عملنا أسئلة كثيرة راودتني وأنا أحضر المواد لكتابة هذه المقالة.

هذه المقالة لن تعطي أي جواب لكل هذه الأسئلة ولكن هي محاولة لعرض الخيال\الكذب كصفة من صفات الأطفال والحكواتيين.

متى يتحول خيال الأطفال كذبا ومتى يصبح الحكواتي كذابا، وما هو المشترك والمختلف بين الأطفال والحكواتين. باختصار شديد (وأدع التفسير الأكاديمي للتربويين والأخصائيين النفسيين) غالبا ما يكذب الأطفال وليس بقصد إنما يتبعون خيالهم قبل أن يتم لجمه من قبل البالغين، أما الحكواتيون فيقال عنهم إنهم كذابون وسارقون عن سابق إصرار وترصد، لأنهم يسرقون الحكايات ويعيدون سردها وكأنها حكاياتهم، وكاذبون لأنهم يبالغون في التفاصيل.

""الحكاية الشعبية "" تشمل جميع أنواع القصص التي نقلت عن الأدب الشعبي (الحكاية الخرافية قصة المثل، القصة الفكاهية، القصة التعليلية والأسطورة)، في هذه المقالة سأتناول الخُرَافية مفرد خرافيات بالعامية الفلسطينية وتعني الحكايات التي تحتوي على الغرائب والعجائب والخوارق والشخصيات الخيالية مثل الغول وأبو رجل مسلوخة.

من أهم صفات الحكاية الشعبية البداية المقولبة، ولها عدة وظائف منها التشويق والتمهيد لسرد الحكاية والأهم هي بمثابة عقد ما بين الحكواتي/ة والجمهور بأنه سيحكي حكاية خيالية ""كان يا ما كان في قديم"" أو بصيغة أخرى ""كان أو ما كان.."" وعند الانتهاء هناك جملة نمطية مثل ""طار الطير تصبحون على خير"" أو ""حكايتي حكيتها وبقلوبكم خبيتها ويا ريت تحبوها مثل ما أنا حبيتها"" وهكذا يعود الحكواتي والجمهور لأرض الواقع.

في الماضي كانت النساء يسردن الحكايات التي تتعامل مع تفاصيل الحياة من السعي للحبل وحتى الموت مرورا بالولادة والبلوغ والزواج وولادة الأولاد ومن ثم الأحفاد، كانت هذه الحكايات تسرد من قبل النساء الكبار في السن في الجلسات العائلية وبالطبع كل إضافة للتسلية وأيضًا لها وظائف اجتماعية وهي نقل القيم والعادات والموروث الثقافي من جيل لجيل (وقد قام الدكتور شريف كناعنة بجمع نماذج منها تعرض كل مراحل الحياة في بحثه ولاحقا كتابه ""قول يا طير""*)وكانت تروى لكل أفراد العائلة كبارا وصغارا بدون تفعيل أي رقابة تجاه مضامين عنيفة أو وصف لمشاهد جنسية ، وكل مستمع منهم يأخذ ما يحتاجه منها ، وبالطبع لم يكن هناك أي تعامل نقدي مع الحكاية وما كان في أي تعامل Political Correct ، وكان ما يميز الحكواتية عن الأخرى هو أداؤها وقدرتها على جذب جمهورها بالإضافة لمخزونها من المفردات اللغوية ومقدرتها على اقتباس المقولات الشعبية لتوظفها في إدهاش جمهورها. والأهم مقدرتها على المبالغة /الكذب (توابل) وهو ما يعطي لكل حكاية نكهتها الخاصة.

مهم أن أذكر أن المبالغة في السرد لم تكن فقط من شيم الحكواتيات، الرجال غالبا ما سردوا السير الملحمية وقاموا بذلك في المقاهي ولجمهور من الرجال ولم يخلُ سردهم من المبالغات/التوابل في وصف معارك ""أبو زيد الهلالي"" وبطولاته في رحلته من الجزيرة العربية لتونس الخضراء.

كيف تحول الكذب إلى خيال?

لم أر أفضل من الحكاية الشعبية الفلسطينية ""قصة أولها كذب وآخرها كذب"" لعرض موضوع الخيال/الكذب وما بينهما.

لقد قام العديد من الباحثين بجمع عشرات الصيغ من هذه الحكاية، وجميعها تتشارك في العنوان ذاته وهناك بعض المشاهد تتكرر في بعضا منها. وأيضا تتشارك في أن الكذب ينقذ البطل/البطلة أو يجعله ينال ما يشتهيه. والأمر يذكرنا بشهرزاد التي نجت بحياتها بفضل قدرتها على اختراع الحكايات وسردها لشهريار في ألف ليلة وليلة.

في عام 2002 تم إعداد وتحرير الحكاية للأطفال من قبل الدكتورة وباحثة التاريخ الشفوي الكاتبة سونيا النمر وأول ما قامت به هو تغيير عنوان الحكاية حيث حولت الكذب إلى لخيال ليصبح اسم الحكاية ""قصة أولها خيال وآخرها خيال"" *. وعلى الأغلب غيرت العنوان الأصلي لأن الكذب قيمة سلبية غير تربوية وبالتأكيد كان سيتم رفض إصدار الكتاب وتوزيعه بمدارس غزة والضفة من قبل وزارة التربية في رام الله .

لقد قامت د. سونيا النمر بذكاء وحكمة وبتوجه نسوي نوعا ما (لأنها أبقت على اختيار العروس من حق الأمير) بتغيير الأدوار فمن يريد الزواج هو الامير وهو من يطلب من والديه أن يدعوا كل صبايا المملكة بدون استثناء، الأميرات والفقيرات بنات الأغنياء وبنات الفقراء، ليختار منهن صبية تجيد سرد حكاية أولها خيال وآخرها خيال. وكون الأمير يفرض مثل هذا الشرط ولا يهمه لا نسب ولا جمال من سيتزوج إنما مقدرتها على الإقلاع بخيالها وسرد حكاية أولها خيال وآخرها خيال.

قامت د. سونيا نمر باختيار أكثر المشاهد غرابة والأكثر فكاهه (مثل مشهد النملتين اللتين تتعاركان حول حبة سمسم) من الكثير من الصيغ * وحاكتها بأسلوب فكاهي جذاب ممتع وملائم للأطفال من جيل السابعة فما فوق، كما أنها أضافت مشاهد مميزة مثل عقاب الأميرة الذي يكون بإطلاقها بمدفع بعيدا عن السوق وأهله، ووصولها لقصر الأمير بسبب هذا العقاب.

المشاهد المقتبسة من عدة صيغ للحكاية:

المبارزة للزواج من الأمير وشرط الأمير.

حضور البطلة عرس الجد والجدة، البيضة التي خرج منها ديك بحجم فرس.

إصابة الديك بجروح تم مداواتها بمرهم من تمرة مهروسة.

شجرة النخيل التي نبتت على ظهر الديك.

المرج أعلى شجرة النخيل. زراعة السمسم وعد حباته.

زراعة البطيخ ونضوجه خلال يوم.

النزول داخل البطيخة والوصول إلى سوق وقطع ذيل الحمار.

المحاكمة.

أصبحت الحكاية بصيغتها المعدلة جدا ملائمة للأطفال من جيل 8 فما فوق وأنا شخصيا أسردها للبالغين مع مزيد من التوابل والمبلغات وكوني حكواتية فالأمر مباح

في الحكايات الشعبية يصبح الكذب خيالا ويأخذ شرعية ولا يتم التعامل معه كقيمة سلبية ..ويبقى سؤالي ما هي الحدود بين الكذب والخيال؟ ومتى يتحول أي كلام من كذب لخيال؟؟

مراجع:

• تفاصيل كتاب "قصة أولها خيال وآخرها خيال إعداد سونيا النمر الطبعة الأولى عن مؤسسة تامر للتعليم المحتمعي رام الله 2002
http://www.childrenslibrary.org/library/books/n/nimstor_00310005/index.html
الصيغ المختلفة لحكاية أولها كذب وآخرها كذب والتي اعتمدتها د. سونيا لإعداد الحكاية للأطفال:

  1. صيغة اولى

  2. صيغة ثانية

  3. صيغة ثالثة

  4. صيغة رابعة

  5. صيغة خامسة

https://www.facebook.com/267817826657027/posts/282433958528747/

https://v.3bir.net/98983/

http://www.alhasahisa.net/vb/showthread.php?t=8803

https://www.qssas.com/story/20411
https://www.youtube.com/watch?v=sh8Z_f7cywk

 

دينيس أسعد

حكواتية وباحثة في ادب الأطفال

شاركونا رأيكن.م