ما بين العنف الأسري وإهمال السلطات

 قصة وفاء عباهرة، ابنة قرية عرّابة، هي مثال كلاسيكي (نموذجي) لجريمة قتل، كان يمكن تجنبها بسهولة، وتعكس قصص الكثير من النساء في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل. وفاء لجأت لكل الجهات الممكنة، سعيًا لإنقاذ حياتها، وما وجدته كان معاملة عدائية من الشرطة، توسلت للحصول على الحماية دون جدوى، وفي النهاية قُتلت بدم بارد.

"خلاف داخل الأسرة"، "القتل على خلفية رومانسية" هي مجرد مصطلحات مغسولة لواقع شفاف، ولإرهاب مستمر تمر به النساء في المجتمع الفلسطيني في الداخل. هذه هي المشكلة بعينها، بمجرد غسيل المصطلحات يصبح من السهل تجاهل المشكلة الحقيقة. فقد حان الوقت بعنونة الأمور بشكل صحيح! إنه "عنف منزلي"، إنه" العنف ضد النساء"، ويجب أن يفهم ويعي ذلك كل من متخذي القرارات، وسائل الإعلام، الجمهور عامة، وخاصة نحن نساء المجتمع الفلسطيني في الداخل، حيث نعيش هذا الواقع يوميًا.

ليس خوفًا، إنما نتيجة قمع مستمر، خوف من الانكشاف، من عزلة عن الأسرة، قلق من التعامل مع مؤسسات القانون والشرطة التي لا تصدقهن، ومن سياسات الحكومة التي تتجاهلهن. لنأخذ مثالًا قصة صبحية طاطور، البالغة من العمر 73 عامًا، والتي قتلت هي وابنها سلام في مطلع شهر كانون أوّل\ ديسمبر 2020 في قرية الرينة، كان لافتًا ما اختارت وسائل الإعلام المحلية إبرازه من خلال تغطياتها لهذا الحدث المأساوي، فوجدنا أبرز عناوينها "خلاف داخل الأسرة"، الأمر الذي يستدل منه سهولة نقل القصة على أنها فردية وتجاهل سياقها الاشمل كمشكلة عامة، أو وسائل الإعلام الإسرائيلية التي اختارت تأطيره على أنّه أشبه "بصراع عشائر آخر في المجتمع الفلسطيني في الداخل".

حينه في عام 2017، تم إقرار خطة حكومية للقضاء على العنف ضد النساء، والتي شملت 250 مليون شيكل لمدة 5 سنوات. وماذا حصل فيها؟ بقيت الخطط داخل أدراج الوزارات، والنساء لا زالت تعيش في ظلّ الإرهاب المتواصل، ملاجئ النساء المعنفات مليئة بالكامل، لا توجد برامج توعوية ضد العنف في المجتمع الفلسطيني. باختصار لم يتغير شيء من وقتها؛ ففي كثير من الأحيان ووفقًا لتجربتنا، فإنّ الكثير من النساء اللواتي يعشن في ظل عنف مستمرّ، لا يعرفن حتى أنهن يعشن فعليًا في واقع مشوّه، فبالنسبة للعديد منهن، هذا هو الواقع الوحيد اللواتي يعرفنه.

منذ العام 2017 - قُتلت أكثر من 100 امرأة في البلاد، وأكثر من نصفهن فلسطينيات، بالإضافة إلى ذلك، فإن 60٪ من ملفات جرائم القتل بحقهن – لا تحظى بمراقبة السلطات وفحص، فيما إذا قدمت فيها لوائح اتهام أم لا. هل تمت ادانة القتلة؟ هل لا زالوا أحرارًا يصولون ويجولون بيننا؟ لا إجابة على هذه الأسئلة! ما نعرفه هو أن 50٪ من ضحايا القتل، معروفات للشرطة أو لمراكز الخدمات الاجتماعية قبيل جرائم القتل، وهو ما يشير الى حالة التقاعس من قبل الشرطة والإهمال الواضح الذي تعاني منه أولئك النساء.

تجدر الإشارة كذلك، إلى أن أكثر من 77٪ من ملفات العنف ضد النساء التي تفتح في الشرطة، تُغلق دون تقديم لوائح اتهام، لأن النساء "يتراجعن" عن الشكاوى، أو بادعاء عدم توفر أدلّة كافية. والشرطة تقوم بذلك بسهولة، بعد أن تعزيها للنساء صاحبات الشأن انفسهن، وتحملّهن المسؤولية على ذلك. ويبقى السؤال: أين الحق العام من كل هذه القضايا!

كما هو معلوم، فإنّ عمليات جمع الأدلة تتم ببطء شديد، وبالرغم من اختلاف الأسماء والأماكن، تكشف عن عوالم موازٍية يعشن فيها أولئك النساء؛ فجريمة القتل ما هي إلا الحدث الأخير في سلسلة الكوابيس التي يعشنها ابتداءً من سوء معاملة، تنكيل وعنف مستمرين بلا دعم او مساندة، ودون إرشاد ومرافقة مواتية من أي جهة تربوية أو نفسية رسمية، ودون فحص معمق وجدي من قبل مكاتب الرفاه الاجتماعي... حتى يصل السيل الزبى، وتقدم بعضهن على خطوة فعالة بتقديم الشكاوى إلى الشرطة، سعيًا منهن للخروج من دوامة العنف، بالرغم من حاجز الخوف والضيق النفسي، بالرغم مما يتطلبه الأمر من شجاعة وضرورة معرفة الأدوات القانونية المتاحة، تحمل المعاملة العدائية والجافة، تقديم الأدلة، وإيجاد مأوى وملجأ يحميها حتى المواجهة في أروقة القضاء وتقديم المعتدي إلى المحاكمة.

باعتقادي، علينا كمجتمع ألا نتصالح مع هذا الواقع، وعلى متخذي القرار أن يدركوا، أنهم إن لم يدرجوا قضية العنف ضد النساء في سلّم اولوياتهم، فإن العشرات منهن سيقتلن سنويا، بهدوء ومن تحت "رادار" السلطات - إن جاز التعبير، وسرعان ما تطوى مأساتهن ومأساة اطفالهن (إن كان لديهن أطفال) بعد فوات الأوان وتختزل بعناوين مقتضبة في وسائل الإعلام، بمسميات تحمل نوعا من التبرير في ثناياها، كمصطلح "خلافات عائلية"، المتداول في هكذا قضايا.

نحن في جمعية "نساء ضد العنف"، كإحدى المؤسسات الناشطة في هذا المجال، اخترنا ان نأخذ مصائرنا بأيدينا، وبدءًا من عام 1992، أنشأنا مركزًا لمساعدة ضحايا العنف الجنسي والجسدي والذي يتطور بشكل مستمر، وأضفنا إلى خط المساعدة الهاتفي للمركز في العام الأخير، مع اتّساع ظاهرة تعنيف النساء في ظل أزمة كورونا، منصة دردشة سريّة، تمكّن النساء المعنفات بالتوجه الينا بطلب المساعدة، بسهولة تامة وبدون تعريض ذواتهن لأي خطر. كما وأنشأنا بيوتًا انتقالية للنساء والفتيات ومآوى أخرى للنساء وأطفالهن، وفي هذه الأيام نعكف على افتتاح مأوى آخر، لاستيعاب النساء المحتاجات لأطر حماية ودعم. كما ونعمل على تطوير تطبيق خاص يمنح النساء الإمكانية للتوجه للمركز بحالات الطوارئ بشكل سريع وسري.

نحن في جمعية "نساء ضد العنف" سنواصل النضال، من أجل هؤلاء النساء، لكننا غير قادرات على القيام بذلك بمفردنا. فإذا لم تغير الشرطة من نهجها غير المهني وغير الجدي وغير الأخلاقي تجاههن، فنحن قلقات من أن يتوقّفن عن التوجه بتقديم الشكاوى كليا، وبالتالي، يفقدن فرصتهن ربما الوحيدة للخروج من دوامة العنف وإنقاذ حياتهن. آن الأوان لتشكيل لجنة تحقيق مهنية، للنظر في جرائم القتل، لجنة تعمل بشكل مستقل دون تقييدات واعتبارات سياسية ومصالح حكومية. وبهذه المناسبة، نتوجه للجنة النهوض بمكانة المرأة في الكنيست، بدعوة لعقد جلسة مستعجلة تتخذ فيها قرارات عملية وفورية لإنقاذ حياة النساء، ومن أجل معاقبة ذوي المسؤولية على تقصيرهم المستمر.

لنوقف مسلسل العنف، فهذه مسؤوليتنا الجماعية وفرصتنا الوحيدة لضمان حياة آمنة، سليمة، معافاة وكريمة لكل أفراد مجتمعنا، برجاله ونسائه. ولنتذكر أن المسؤولية في مكافحة ظاهرة العنف ضد النساء، تقع علينا جميعًا، قياديين/ات مثقفين/ات، إعلاميين/ات، مهنيين/ات، أحزاب وحركات وطنية، لأنّ تلعثمنا في هكذا قضايا هو بمثابة أرض خصبة لاستمرار جرائم العنف والقتل والتهميش وانتهاك الحريات.

 


كاتبة المقال: نائلة عواد، هي ناشطة نسوية والمديرة العامة لجمعية "نساء ضد العنف".

نائلة عواد

ناشطة نسوية والمديرة العامة لجمعية "نساء ضد العنف"

شاركونا رأيكن.م